وهو لا يزال يذكر ذلك الكبير الذي كان يعاونه في التحقيق، وكان يجلس أمامه وعيناه مسبلتان من شدة خشية الله، وشفتاه تتمتمان بلا انقطاع بآيات القرآن، وأصابعه لا تفارق مسبحته، وصوته يهب كلما جاء ذكر "محمد" مصليًا عليه ومسلمًا.. لا يزال يذكر أن هذا الرجل التقي الورع الذي كسا وجهه الإيمان، كان حربًا على التحقيق، وكان ينقل أخباره وخطواته أولًا بأول إلى المتهمين الذين يهمهم أن يضعوا العراقيل، وأن ينصبوا الشباك، وأن يحبكوا أطراف المؤامرة.
لذلك كله لن يتكلم النائب العام السابق، وسيبقى لسانه حبيس شفتيه، وسيبقى سخطه حبيس صدره، وسيبقى هو حبيس داره، تقوم من حوله أشباح تضطهده في عزلته كما اضطهدته في منصبه!
ورغم ذلك، فهناك الكثير مما يقال:
فقد كان يسيطر على التحقيق ثلاثة أطراف: النيابة العامة، والحكومة، والمتهمون، وكلهم -أو أغلبهم- من أصحاب النفوذ!
وكانت النيابة تعتقد أن الحكومة تقرها في جميع تصرفاتها، وكان النائب العام يعرض خطوات التحقيق أولًا بأول على الحكومة، سواء على النحاس باشا شخصيًّا، أو على مَن يقوم مقامه.
وكانت الحكومة تقر هذه التصرفات صغيرها وكبيرها؛ ولكنها كانت عندما تدير وجهها إلى الناحية الأخرى، تنفي عن نفسها مسئولية هذه التصرفات، وتلقي التبعة كلها على النائب العام وحده، ثم لا تتوانى عن اتهامه بالعناد و"بالجليطة" في اتخاذ إجراءاته.
وهذا ما لم يستطع أن يلمحه النائب العام، أو يتنبه له إلا في المراحل الأخيرة من التحقيق١.