للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

سيمنعه"١. وخرج من عند أبرهة إلى قومه خرج من المعركة النفسية منتصراً, ولم يظفر منه بطائل, ولقد كان في الكلمات الموجزة الحادة كل ما أراد عبد المطلب أن يفصح عنه وأن يفهم الغازي. قال له: "أنا رب الإبل؛ الإبل مال اكتسبتُه واكتسبتْه قريش فلي ولهم الحق أن يطلبوه. وإذا كان لي ولهم الحق في طلب أو مباحثة أو جدل فيما هو ملك لنا ومن حقنا. وأما البيت فهو بيت الله وليس لي ولا لأحد فيه من الحق كما في الإبل, ولا يحل لي بحال من الأحوال أن أتكلم فيه, أو أساوم عليه, أو أتذلل لك في أمره فإن ربه أولى به وبحمايته". إن عبد المطلب قد أوضح في هذا القول البليغ الحدود التي تقف عندها صلاحيات الزعامة, والموقف العدل الحق الذي إن التزمه الزعيم كان من الموفقين. فبيَّن فيه أن ثمة حقوقا كبرى في حياة الأمة وذمما تاريخية وإلهية لا يحق لأي ذي سلطان أو نفوذ أن يمسها وأن يجعل في مهب أهوائه ومصالحه إن شاء أخفرها أو ساوم عليها. وإن التاريخ يشهد بأن النصر يقف دائما حيث يقف أولئك الزعماء الذين يلتزمون الحق الأعلى لا يجاوزنه ولا يقبلون به عدلا أو حلا وسطا. وقد رضي الله لعبد المطلب صلابته في حرمة بيت الله وثباته فأرسل على الغزاة العتاة جنداً من السماء: {طَيْراً أَبَابِيلَ, تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ, فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} ٢ وما كان هذا التوفيق الإلهي في تلك الساعة لعبد المطلب نفسه وإنما لجنين في رحم آمنة بنت وهب قد بلغ منه سبعة أشهر وكان أبوه في تلك الأثناء في يثرب يلفظ أنفاسه الأخيرة وأمه تجلس في بيتها تنتظر عودة زوجها الغائب وتترقب مع الناس قلقة أوبة حميها في معسكر أبرهة: هذا الجنين الذي أذن الله له أن يتنسم أنسام مكة بعد خمسين يوما من غزوة أصحاب الفيل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب, به قد وفق الله جده وأكرمه وأكرم العرب والعالمين.

كانت هزيمة أصحاب الفيل وما زالت آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته جعلها بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت المنة بها على أهل مكة عظيمة, ولكن القوم كانوا في جاهلية ظلماء فما أن ذهب عنهم الروع وفزع عنهم حتى عادوا يسدرون في غيهم ومظالمهم ومفاسدهم. ولم تكن الإشارة التي حملتها المعجزة لتنزعهم من الغي والضلال, فأتم

١المصدر نفسه. وكان التحدي أعظم إذ قال له أبرهة: "ما كان ليمتنع مني". فقال له عبد المطلب: "أنت وذاك".


٢سورة الفيل.

<<  <   >  >>