للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

من غرض تحركاته العسكرية, وأفصح عنه عبد المطلب وهو أخذ بحلقة باب الكعبة يستغيث الله:

لاهم أن العبد يمنع ... رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك٢

وكانت الكعبة منذ أغوار الزمن مثابة العرب وأمنهم ومهوى أفئدتهم يلتفون حولها بمشاعرهم وشعائرهم في جو من الرضا العضوي والتقديس لمقام إبراهيم من منزلة في قلوبهم, وارتقت مطامع أبرهة إلى القضاء على أسباب وحدة العرب الروحية المجتمعة في الكعبة واستبد به التفكير في تهديمها فجاءت خطته تعد في الحقيقة تغيير جذري في مرافق العرب ومستقبلهم (خطة لا تختلف في كثير عن خطة اليهود في تحريق المسجد الأقصى وزعزعة قواعده لقطع صله المسلمين بمسجد يشدون إليه الرحال) . وقدَّم أبرهة لهذه الخطة النكراء ببناء القليس - كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض -٣ وأوضح الغرض منها في تقرير أرسله إلى سيده ملك الحبشة يقول فيه: "لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب"٤ ولما عرضها للعرب لم تهو إليها أفئدتهم وأنكروا مضاهاتها لمقام إبراهيم عليه السلام, وأحدث بناؤها رد فعل عنيف في نفوسهم تجلى في إعراضهم عنها ونهوض بعضهم للتعبير عن سخطهم ونقمتهم وهوانها عليهم بأساليب خاصة فردية فأيقن أبرهة بإفلاس القليس ما دام للعرب حول الكعبة مقام فبيَّت غزو مكة وتهديم كعبتها المشرفة, وعبأ جيشه وأعلن بالزحف.

ولم يكن طريقه إلى مكة لا أشواك فيه, إذ من العسير على العرب أن يتسامعوا بغزو بيت الله الحرام فلا يستثارون ولا يثورون. فهب فريق ممن أوتوا حمية وغيرة يعترضون جيش أبرهة اللجب. وكانت أولى المقاومة من قوة يمانية على رأسها الملك ذو نفر٥ صمد لأبرهة بقبيلته وجماعات من العرب، ولم يكن ثمة تكافؤ بين الفريقين، فأحاط به أبرهة وأسره وكبَّله وسيره في الجيش تشهيراً وتخويفاً وردعاً للآخرين. على أن مصير ذي نفر لم يمنع قوة عربية أخرى للمقاومة من قبيلة خثعم بقيادة سيدها نفيل بن حبيب٦ فلم يلبث إلا يسيرا حتى أسر وأدني للقتل ولكنه أعلن ولاءه وولاء قبيلته الكبيرة لأبرهة وتطوع أن يكون دليله


٢ ابن هشام: السيرة م١ ص٥١.
٣ ابن هشام: السيرة م١ ص ٤٣.
٤ المصدر نفسه: م١ ص ٤٣.
٥ المصدر نفسه: م١ص٤٦
٦ المصدر نفسه: م١ ص٤٦

<<  <   >  >>