للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ويظهر جلاء الأمر إذا قابلنا بين موقفهم من أبرهة وموقف العرب المسلمين من أعدائهم الكفرة؛ قيل لزيد ابن الدثنة وهو يقدَّم للقتل: "أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة. . تؤذيه، وأني جالس في أهلي"١.

وكان قياصرة الروم أحياناً يروزون حرص المسلمين على دينهم فيغرونهم الإغراء المذهل ليفتنوهم، فما ينفصمون من دينهم شعرة فيلبس القياصرة من ثباتهم ويقينهم، ذلك أن صار للعرب قضية يعيشون لها، ولا يجدون شيئاً باهظاً أن يستشهدوا في سبيلها. ولا يفلح عرب ولا مسلمون لا قضية لهم، وخير القضايا طراً قضية السماء.

الانقسام والسطحية في العقيدة: ولعل أفدح العوامل في مأساة العرب عام الفيل - وفي كل مأساة من مآسي تاريخهم كله - خمود نيران الحمية الدينية في القلوب, وفقدان الأشداء من المؤمنين: أعمدة الثبات والتثبيت في الملمات والحروب. فبينما كان أعداءهم الأحباش يتقدمون إلى بيت الله الحرام بحمية صليبيه طاغية, كانت أفئدة العرب خلواً من شعور ديني مقدس دفاق قادر على دحر الموجة الصليبية. ولو فتشنا قلوبهم يوم ذاك لما وجدنا فيها حقيقة من حقائق الدين, ولا معنى واضحا من معانية يعتصبون به وينطلقون منه. كل ما فيها يوم ذاك ظلال من دين إبراهيم غمرها من الوثنية غبار كثيف. . أفسدت عليهم الأصنام دين التوحيد وباعدت بين معتقداتهم وقلوبهم وألقت البغضاء بينهم إذ ذهبت كل قبيلة بصنم, تعبده دون القبائل الأخرى, فكان هذا الانقسام في الدين عاملا خطيرا في تفتيت وحدتهم كأمة لها دور في التاريخ. حتى صارت بعض القبائل لا تجد ضيرا في تهديم الكعبة إذا سلم لها إلهها كما رضيت ثقيف بذلك على أن تبقى لها اللات وجرى العرب في عبادة الأوثان على تقليد ذميم وليس لها في طباعهم وتفكيرهم أصالة واستقرار. ولم يكن في مقدور الأوثان أن تلهب القلوب بحمية ما. فاجتمع لهم إلى الانقسام السطحية في الدين, وهو داء عياء خذال قتال في المواقف الكبرى التي يتقرر فيها المصير, وكان العرب يوم ذاك بما هم عليه من هذا على شفا الضياع والهلاك؛ لئن لم يخلعوا الأصنام التي قسمتهم والوثنية التي أماتت شعورهم وحميتهم ذهبوا وضاعوا وهلكوا. ولهذا لما أراد الله بهم خيرا بدلهم


١ السيرة لأبن هشام: م٢ ص١٧٢ والقائل هو أبو سفيان بن حرب.

<<  <   >  >>