تقدم في (التمهيد) أن لكل علم خصائص، وأن للعلم بهذه الخصائص فائدتين، ذكرناهما هناك. ويهمنا هنا إحدى الفائدتين، وهي: أن العلم بخصائص علم ما يوقفنا على الأسلوب الصحيح في تحصيله، وعلى العوائق الحائلة دون بلوغ غايتنا منه، وعلى وسائل تجاوزها؛ لأن كل ميزة لذلك العلم ينبه إدراكها إلى سبيل احتوائها، في حين أن عدم إدراكها أكبر عقبة (أو يكاد يكون كذلك) دون فهم ذلك العلم والوصول إلى مرادنا منه.
وقد تنبهت إلى أربع خصائص لعلم الحديث، أحسبها أهم خصائصه، فأحببت لفت نظر طلاب العلم إليها، ليبتدئوا طلب علم الحديث بالأسلوب والمنهج الصحيح اللائق بهذا العلم، ولكي لا تتعثر خطاهم ويضيعوا أزماناً (لا تقدر بثمن) قبل إدراك ذلك المنهج الصحيح.
وإليك هذه المميزات الأربعة، تحت عناوين أربعة فيما يلي؛ متبعاً كل ميزة منها بالمنهج الذي تستلزمه في الطلب، وبأسلوب التحصيل الصحيح في مواجهتها، وما هي وسائل احتوائها دون أن تصبح عقبة كأداء في طريق علم الحديث.
الميزة الأولى:
من أهم مميزات علم الحديث أنه علم شديد المأخذ، صعب المرتقى، دقيق المسالك، بعيد الغور. ولذلك فليس من السهل فهمه، ولا من اليسير تعلمه، ولا يقدر على فقهه كل أحد، ولا يستطيعه كثير أناس.
ولهذا كان الإمام الزهري (ت١٢٤ هـ) يقول: (الحديث ذكر، يحبه ذكور الرجال، ويكرهه مؤنثوهم)(١) . ومعنى هذا أن الحديث يحتاج إلى عقل فحل في عزم
(١) انظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (٦٤) ، والمحدث الفاصل للرامهرمزي (١٧٩ رقم ٣١ - ٣٢) ، والمجروحين لابن حبان (١/٦٢) ، والكامل لابن عدي (١/٥٨ -٥٩) ، والمدخل إلى الإكليل للحاكم (٢٧) ، وحلية الأولياء لأبي نعيم (٣/٣٦٥) ، وشرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم١٥٠، ١٥١) ، ومسألة العلو والنزول لابن طاهر (رقم ٩) ، وترجمة الزهري من تاريخ دمشق - الترجمة المطبوعة المفردة - (١٥٠)