وهذه الميزة تعني: أن تعلم قواعد علم الحديث ودراسة مصطلحه ليس سوى الخطوة الأولى في طلب علم الحديث، مهما تعمق الدارس في تحصيل تلك القواعد والأصول. وما جنى على علم الحديث شيء في العصر الحديث مثل الغفلة عن هذه الحقيقة، وذلك بالتعامل مع الروايات الحديثية بتلك القواعد معاملة من معه قوالب يصب فيها مادته الخام ومعاملة من معه ختوم جاهزة يطبع بها كل مسألة جزئية، دون أن يتنبه إلى أن لكل قاعدة شذوذات، بل يختلق القواعد لما ليس له قاعدة، لعدم استطاعته إلا التعامل مع القوالب الجاهزة!!
وهذه الميزة تعني أيضاً: أن علم الحديث علم حي لا يعيش وينمو في صدر رجل إلا بالممارسة له والتطبيق العملي لقواعده. لأن شذوذات القواعد (وهي كثيرة وإنما سميت شذوذات لأنها بخلاف القاعدة المنصوص عليها) ، والمسائل التي لا قواعد لها، لا يحسن الوقوف عليها، ولا يعرف المآخذ والأسس التي تبنى عليها أحكامها، ولا يلحظ الملابسات والقرائن الخاصة بكل مسألة جزئية منها؛ إلا من عاش علم الحديث تطبيقاً عملياً وممارسة عميقة فترة طويلة من عمره.
وعلى هذا فعلم الحديث يحتاج كل الاحتياج لممارسة طويلة، وتطبيق عملي عميق، ليمكن طالب الحديث بعد مرور زمن طويل من ذلك أن يتنبه لشذوذات القواعد وملابساتها، وأن يقف بنفسه على مآخذ الأحكام في المسائل التي لا قواعد لها وإنما يرجع فيها للقرائن الخاصة بكل مسألة.
يقول الخطيب البغدادي، منبها على أهمية الممارسة العملية في علم الحديث: "قل ما يتمهر في علم الحديث، ويقف على غوامضه، ويستنير الخفي من فوائده، إلا من جمع بين متفرقه، وألف متشتته، وضم بعضه إلى بعض، وانشغل بتصنيف أبوابه، وترتيب أصنافه. فإن ذلك الفعل مما يقوي النفس، ويثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويبسط اللسان، ويجيد البيان، ويكشف المشتبه، ويوضح الملتبس، ويكسب أيضاً جميل