للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:
فهرس الكتاب ذكر غير واحد من علماء السلف والخلف من المفسرين وغيرهم أن سد مأرب كان صنعته أن المياه تجري من بين جبلين، فعمدوا في قديم الزمان فسدوا ما بينهما ببناء محكم جدا، حتى ارتفع الماء فحكم على أعالي الجبلين، وغرسوا فيهما البساتين والأشجار المثمرة الأنيقة، وزرعوا الزروع الكثيرة، ويقال كان أول من بناه سبأ بن يعرب وسلط إليه سبعين واديا يفد إليه وجعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء، ومات ولم يكمل بناؤه، فكملته حمير بعده، وكان اتساعه فرسخا في فرسخ، وكانوا في غبطة عظيمة وعيش رغيد وأيام طيبة، حتى ذكر قتادة وغيره أن المرأة كانت تمر بالمكتل على رأسها فيمتلئ من الثمار مما يتساقط فيه من نضجه وكثرته، وذكروا أنه لم يكن في بلادهم شئ من البراغيث ولا الدواب المؤذية، لصحة هوائهم وطيب فنائهم كما قال تعالى (لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم، واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) وكما قال تعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) .

وَتَعَبٍ، وَطَلَبُوا أَنْ يُبَدَّلُوا بِالْخَيْرِ شَرًّا، كَمَا سَأَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَدَلَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى الْبُقُولَ وَالْقِثَّاءَ وَالْفُومَ وَالْعَدَسَ وَالْبَصَلَ، فَسُلِبُوا تِلْكَ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ وَالْحَسَنَةَ الْعَمِيمَةَ بِتَخْرِيبِ الْبِلَادِ وَالشَّتَاتِ عَلَى وُجُوهِ الْعِبَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِم سيل العرم) .

قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى أَصْلِ السد الفأر وَهُوَ الجرذ وَيُقَال لَهُ الْخُلْدُ، فَلَمَّا فَطِنُوا لِذَلِكَ أَرْصَدُوا عِنْدَهَا السَّنَانِيرَ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، إِذْ قَدْ حُمَّ الْقَدَرُ وَلَمْ يَنْفَعِ الْحَذَرُ كَلَّا لَا وَزَرَ، فَلَمَّا تَحَكَّمَ فِي أَصْلِهِ الْفَسَادُ سَقَطَ وَانْهَارَ، فَسَلَكَ الْمَاءُ الْقَرَارَ، فَقُطِعَتْ تِلْكَ الْجَدَاوِلُ وَالْأَنْهَارُ وَانْقَطَعَتْ تِلْكَ الثِّمَارُ، وَبَادَتْ تِلْكَ الزُّرُوعُ وَالْأَشْجَارُ، وَتَبَدَّلُوا بعْدهَا بردئ الْأَشْجَارِ وَالْأَثْمَارِ، كَمَا قَالَ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ " وَبَدَّلْنَاهُمْ بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ الْأَرَاكُ وَثَمَرُهُ الْبَرِيرُ، وَأَثْلٍ وَهُوَ الطَّرْفَاءُ.

وَقِيلَ يُشبههُ، وَهُوَ حطب لَا ثَمَر لَهُ " وشئ من سدر قَلِيل " وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُثْمِرُ النَّبْقُ كَانَ قَلِيلًا مَعَ أَنَّهُ ذُو شَوْكٍ كَثِيرٍ وَثَمَرُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، كَمَا يُقَالَ فِي الْمَثَلِ: لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لَا سَهْلَ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينَ فَيُنْتَقَى.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الكفور " أَيْ إِنَّمَا نُعَاقِبُ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ مَنْ كَفَرَ بِنَا وَكَذَّبَ رُسُلَنَا وَخَالَفَ أَمْرَنَا وَانْتَهَكَ مَحَارِمَنَا.

وَقَالَ تَعَالَى: " فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ ممزق " وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا هَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ وَخَرِبَتْ بِلَادُهُمُ احْتَاجُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنْهَا وَيَنْتَقِلُوا عَنْهَا، فَتَفَرَّقُوا فِي غَوْرِ الْبِلَادِ وَنَجْدِهَا أَيْدِيَ سَبَأٍ شَذَرَ مذر، فَنزلت طوائف مِنْهُم الْحجاز، وَمِنْهُم خُزَاعَةُ، نَزَلُوا ظَاهِرِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنذكرُهُ، وَمِنْهُم الْمَدِينَة المنورة الْيَوْمَ، فَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ سَكَنَهَا، ثُمَّ نَزَلَتْ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ قَبَائِلَ مِنَ الْيَهُودِ بَنُو قَيْنُقَاعَ وَبَنُو قُرَيْظَةَ وَبَنُو النَّضِيرِ، فَحَالَفُوا الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ وَأَقَامُوا عِنْدَهُمْ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ، وَنزلت طَائِفَة

<<  <  ج: ص:  >  >>