للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

"الناس في هذا بين طرفي نقيض، فمن قائل: لا يقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن تساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما". (١)

ثم إن علماء التفسير وهم ينقلون دعوى نسخ هذه الآيات نقلوا أقوال محققي أهل العلم في إحكام تلك النصوص، يقول الطبري في سياق تفسير قوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب} (العنكبوت: ١٤٦): " لا معنى لقول من قال: نزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال، وزعم أنها منسوخة، لأنه لا خبر بذلك يقطع العذر، ولا دلالة على صحته من فطرة عقل، وقد بينا في مواضع من كتابنا: أنه لا يجوز أن يحكم على حكم الله في كتابه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل". (٢)

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما ذكره الله تعالى من مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا محكم لم ينسخه شيء، وكذلك ما ذكره تعالى من مجادلة الخلق مطلقاً بقوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: ١٢٥).

فإن من الناس من يقول: آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات بآية السيف لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة، وهذا غلط، فإن النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضاً للحكم المنسوخ، كمناقضة الأمر باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام ...

وقوله: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (العنكبوت: ٤٦)، فهذا لا يناقضه الأمر بجهاد من أمر بجهاده منهم، ولكن الأمر بالقتال يناقض النهي عنه والاقتصار على المجادلة، فأما مع إمكان الجمع بين الجدال المأمور به والقتال المأمور به فلا منافاة بينهما، وإذا لم يتنافيا، بل


(١) الإتقان (٢/ ٦٥).
(٢) جامع البيان (٢١/ ٣).

<<  <   >  >>