أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {العنكبوت:٢ - ٣}، وقال عز وجل: مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ {آل عمران:١٧٩}، وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:٣٥}، ومن ذلك ابتلاء الله لخليله إبراهيم عليه السلام بأمره بذبح ولده بعدما بلغ معه السعي، فقد عقب الله تعالى على ذلك بقوله: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ {الصافات:١٠٦}، قال الطبري: إن أمرنا إياك يا إبراهيم بذبح ابنك لهو البلاء، يقول: لهو الاختبار الذي يبين لمن فكر فيه أنه بلاء شديد ومحنة عظيمة. انتهى.
وقد ابتلاه الله أيضاً بالإلقاء في النار وبتسليط جبار من الجبابرة على امرأته سارة، وبوضع امرأته هاجر وابنه إسماعيل في واد غير ذي زرع ولا ماء، وغير ذلك. ولكن الله نجاه وحفظه وأهل بيته، وأجزل له المثوبة في الدنيا مع ما ينتظره من ثواب الآخرة، قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {النحل:١٢٠ ... ١٢٣}، فصار إبراهيم عليه السلام مثلاُ يلزم الاقتداء به، ومثالاً ينبغي القياس عليه، فالجزاء من جنس العمل، فكل من أحسن في عبادة الله كان جزاؤه عند الله الإحسان، كما قال تعالى: هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ {الرحمن:٦٠}، وقال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر:١٠}، وقال عز وجل: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى {النجم:٣١}، فمن استجاب لأمر الله وصبر على امتحانه واستقام على أمره نال في الدنيا الحياة الطيبة، وفاز في الآخرة بالنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، كما حصل للصحابة الكرام رضي الله عنهم في غزوة حمراء الأسد بعد غزوة أحد وما كان فيها من البلاء المبين والقرح الشديد، قال تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ* الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {آل عمران:١٧٢ - ١٧٣ - ١٧٤}.
فللبلاء في حق المؤمنين طعم آخر، حتى إن خواصهم ليفرحون بالبلاء كما يفرح غيرهم بالعطاء، مع ما يُدَخر لهم في الآخرة من الأجر المُضاعف، كما قال أبو سعيد الخدري: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر. قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، قلت: يا رسول الله ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم