للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فمن علم وأيقن أن الله تعالى أرحم بعبده من الأم بولدها، وعلم أنه تعالى هو الغني الحميد الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه تعالى هو الأعلم بمصالح العبد، وأنه هو القادر على سوقها إليه أقبل بقلبه على ربه ولم يكن له تعلق بسواه، وكان حسن الظن به واثقا بما في يده تعالى، وإن كان يعلم من نفسه التقصير والتفريط والعجز، فالتوكل على الله والوثوق به ينبعث في القلب من مطالعة أسماء الرب عز وجل وصفاته، فمن كان بالله وصفاته أعلم كان توكله أتم وأكمل , يقول ابن القيم ـرحمه الله: وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب , والقيام بمصالح العباد, وسوق أرزاقهم إليهم, ودفع المصائب عنهم ونصره لأوليائه, وحمايته لهم, ومعيته الخاصة لهم, انبعثت من العبد قوة ليتوكل عليه, والتفويض إليه والرضا به في كل ما يُجريه على عبده, ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه، والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله, وحسن اختياره لعبده, وثقته به, ورضاه بما يفعله ويختاره له. انتهى.

وليس بين هذا وبين شعور العبد بالتقصير والتفريط تنافٍ ألبتة, فإن العبد يسير إلى الله تعالى بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل , بل إن افتقار العبد لله وشعوره بالذل والانكسار واستحضاره أنه لا حول له ولا قوة من دون الله وأنه لا يملك لنفسه شيئا وافتقاره إلى الله تعالى في جلب مصالحه ودفع المضار عنه من أعظم الأسباب الجالبة لكفاية الرب تعالى لعبده وجبره كسره وإقالة عثرته, يقول ابن القيم ـ رحمه الله: فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً ولا سبباً يتعلق به ولا وسيلة منه يمن بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تُجبر إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته , ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية ولا حجاب أغلظ من الدعوى ... انتهى. والله أعلم.

السؤال الثامن: ما حكم الثقة بالنفس؟ وهل تتنافى الثقة بالنفس مع اتهام السلف لأنفسهم بالتقصير ومع التواضع المشروع؟

الثقة بالنفس بعد التوكل على الله مطلوبة شرعاً، فالمسلم يتعين عليه أن يُحسن الظن بالله تعالى، وأن يتفاءل لنفسه الخير والنجاح دائماً، ويسعى باستمرار في سبيل الارتقاء لتحصيل الكمال، ويستخدم لذلك فكره وطاقته، ويبذل جهده وما تيسر له من الوسائل في تحقيق طموحاته والوصول إلى أهدافه، فقد قال الله تعالى: فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين {آل عمران: ١٥٩}.

وفي حديث الصحيحين: يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي.

<<  <   >  >>