للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهو نَصٌّ في أن مَنْ يتبعُ تشريعَ الشيطانِ تاركًا تشريعَ اللَّهِ أنه اتخذَ الشيطانَ رَبًّا، ومعنى هذا واضحٌ؛ لأن الأمرَ والنهيَ والتحليلَ والتحريمَ لا يكونُ إلا للأعظمِ الذي بيدِه كُلُّ شيءٍ، فإذا جَعَلَهُ لغيرِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْطَى منصبَ الربوبيةِ الكاملَ لغيرِ اللَّهِ (جل وعلا)، وَجَعَلَهُ رَبًّا غيرَ اللَّهِ، وَبَيَّنَ اللَّهُ (تعالى) في سورةِ النساءِ أن الذي يريدُ أن يُحَكِّمَ قوانينَ الشيطانِ دونَ نظامِ اللَّهِ ويَدَّعي مع ذلك أنه مؤمنٌ، أن دَعْوَاهُ هذه كاذبةٌ بعيدةٌ، تستحقُّ أن يُتَعَجَّبَ منها، والآية التي بَيَّنَ اللَّهُ بها هذا هي قولُه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: آية ٦٠] والتحاكمُ إلى الطاغوتِ يشملُ كُلَّ تَحَاكُمٍ إلى غيرِ ما أَنْزَلَهُ اللَّهُ، فقولُه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} صيغةٌ يُعجِّبُ اللَّهُ بها نَبِيَّهُ، يقولُ: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا} كيف يزعمونَ الإيمانَ، ومع ذا يُرِيدُونَ التحاكمَ للطاغوتِ، فهذا شيءٌ لا يَجْتَمِعُ!! ولذا عَجَّبَ اللَّهُ مِنْهُ نَبِيَّهُ.

ثم خَتَمَ الآيةَ بقولِه: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا} فالواقعُ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ له الحكمُ كُلُّهُ، له الحكمُ الكونيُّ القدريُّ، وله الحكمُ الشرعيُّ، فهو الذي يفعلُ ما يشاءُ، ولا يكونُ خيرًا ولا قَدَرًا إلا ما شاءه (جل وعلا). وكذلك له الحكمُ الشرعيُّ، فهو الذي يَأْمُرُ، وهو الذي يَنْهَى، وهو الذي يُحَلِّلُ، وهو الذي يُحَرِّمُ، فالحلالُ ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ ما شَرَعَهُ اللَّهُ، فليس لأحدٍ تحليلٌ ولا تحريمٌ، ولَا شرعُ دينٍ ولا نظامٍ. وقد بَيَّنَّا أن مَنِ ادَّعَى أنه يَمْلِكُ هذه السلطةَ - وهي سلطةُ التشريعِ - أنه جَعَلَ نفسَه له أن يأخذَ حقوقَ اللَّهِ الخالصةَ له؛ لأجلِ ربوبيتِه فيجعلُها لِنَفْسِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>