الرسول في ضحى أحد الأيام، على غير عادته في التردد على داره صباحا أو مساء.. خطوة من خطوات الإيهام والتدبير بأولئك الذين يريدون أن يمكروا به..
ودهش أهل الدار لمجيء الرسول في وقت لم يعتادوه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إلى دهشتهم، بل يتجه إلى رفيقه فورا ويطلب منه أن يخرج ابنتيه من المكان، فيطمئن أبو بكر الرسول بأنه ليس ثمة ما يخشى، ويتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم:
«إن الله أذن لي في الخروج والهجرة» فيرد عليه الصديق وهو يهتز فرحا: «الصحبة يا رسول الله؟» فيجيبه الرسول: «الصحبة» . وتقول عائشة:«فو الله ما شعرت قط، قبل ذلك اليوم، أن أحدا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبي يبكي يومئذ» !!
ومعا استكملا الخطة ووضعا الأسباب، وتركا- من ثم- مصيرهما ومصير الدعوة لله، صانع المصائر ومقدر الأقدار ... التسلل من شباك خلفي على غفلة من قريش.. التوجّه جنوبا على طريق اليمن واللجوء إلى إحدى مغارات جبل ثور هناك.. التوقف عن السير ثلاثة أيام ريثما تخف محاولات القرشيين المستميتة في البحث عن الرسول، ثم الانطلاق- بعد ذلك- صوب يثرب في طريق وعر غير مطروق، يعينهما في ذلك دليل ماهر من المشركين أنفسهم، اختير اعتمادا على كفاءته العالية كدليل، وعلى أمانته التي لا بد وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد سبر أغوارها، أما أنباء تحركات القرشيين ومطارداتهم فسيأتيهما بها عبد الله بن أبي بكر، وأما توفير الطعام فسيقوم به راعي أبي بكر، عامر بن فهيرة، الذي كلّف بإراحة الأغنام عند الغار مساء كل يوم كي يحتلبها المهاجران ويشربا من لبنها..
كما كلفت أسماء بتوفير الطعام في المرحلة التالية من الهجرة، وأما آثار الأقدام الذي سيخلفها عبد الله بن أبي بكر لدى ذهابه وإيابه، والتي تقود إلى الغار مباشرة فإن هناك راعي أبي بكر يعود في الأمسيات في أعقاب عبد الله لكي تطمس حوافر الأغنام على خطوات الرجال!!
خطة محكمة ورائعة.. ولا يبقى إلا أن يتنزل نصر الله على قادة استكملوا كل الأسباب التي منحهم الله إياها.. إنه التوافق المنغم الرائع، الذي تحدثنا عنه، بين مشيئة الله وإرادة الإنسان، وبين هدي الله وخطوات عباده الأبرار..