لقد نجحت التجربة لأن الأرضية التي أقيمت عليها والقيادة التي خططتها ونفذتها استكملتا كل شروط النجاح في مجتمع شاب يحكمه مبدأ العطاء قبل الأخذ، وتشده أواصر العقيدة وحدها ويوجهه الإيمان العميق في كل حركاته وأعماله وفاعلياته، ويقوده الرسول (الأسوة) الذي ضرب بتجرده وإيثاره وانسلاخه عن الأخذ وعطائه الدائم مثلا عاليا ومؤثرا يحرك حتى الحجارة الصم لكي تنبجس فيتدفق منها الماء. وأنى لتجربة كهذه أن تفشل وتتعثر والرسول صلى الله عليه وسلم يخوض مع أصحابه تجربة الفقر والجوع في سني الهجرة الأولى ويعاني كما يعانون بل أكثر مما يعانون، دون أن يفكر يوما بأن يمتطي (منصبه الأعلى) ليسلك طريقا آخر غير الذي يسلكه أتباعه، فيثري ويفتقرون، ويشبع ويجوعون، ويأخذ ويعطون. أولم يشك له أصحابه يوما الجوع ويكشفوا عن بطونهم التي شد كل منهم عليها حجرا لكي يؤكدوا له ما يعانونه، فإذا به يبتسم وقبل أن يتكلم يكشف عن بطنه فإذا بقطعتين من الحجارة قد شدتا عليها؟
روى البخاري أن أنس بن مالك قال: ما أعلم النبي رأى رغيفا مرققا حتى ألحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط. وعن عائشة قالت: إنّا كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلّة في شهرين وما أوقدت في بيوت رسول الله نار، فقال لها عروة ابن الزبير: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء. وقالت لقد توفي رسول الله وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رق لي. وعن أبي ذر قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة فاستقبلنا أحد فقال: يا أبا ذر قلت: لبيك يا رسول الله فقال ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا أموت وعندي منه دينار إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله وعن خلفه، ثم مشى فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وقليل ما هم!!
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول:«كان لنا جيران من الأنصار نعم الجيران.. كانوا يهدوننا بعض الطعام» ، وصلى عليه السلام مرة جالسا من شدة الجوع. قدموا له عصير اللوز فقال: أخروه عني هذا شراب المترفين. وتوفي ودرعه مرهونة عند يهودي اشترى منه ثلاثين قدحا من الشعير أخذها لطعام أهله.
ولم يكن لديه قط قميصان معا، ولا رداآن، ولا إزاران، ولا نعلان. وأهدي إليه من الشام جبة وخفان فلبسهما حتى تمزقا.. وحج في قطيفة لا تساوي أربعة