(إن النبي لا يقتل بالإشارة) .. هذا إزاء رجل كان قد ارتد وجاء يطلب الأمان، فكيف برجال يشهدون خمس مرات في اليوم بشهادة الإسلام؟ إنه كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يحصدهم في غداة واحدة، إلا أن مقياسا دقيقا لمعرفة إيمان كل منهم لم يكن بيديه، وإنما توكل السرائر لله، ويحاسب الناس بأعمالهم الظاهرة..
وهؤلاء منافقون وظاهرهم المكشوف ظاهر إسلامي، على خلاف مع باطنهم، فكيف يعاقبهم؟ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك، فضلا عن هذا البعد الأخلاقي، أن ممارسة القتل الجماعي أو الفردي تجاه أناس من أتباعه، محسوبين على معسكره، سوف يعطي لأعدائه في الخارج سلاحا دعائيا ممتازا لمهاجمة الإسلام، وقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال لأصحابه معترضا على إلحاحهم عليه بممارسة هذا الأسلوب تجاه المنافقين «فكيف بالعرب إذا قالت إن محمدا يقتل أصحابه؟» ، وهذا حق، فهم على المستوى السياسي والقانوني من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وما دام أي منهم لم يمارس عملا (جرميا) محددا فإن من الصعوبة بمكان عزله أو قتله..
وخلال العودة من تبوك، حين أراد بضعة عشر منافقا أن يمكروا بالرسول صلى الله عليه وسلم ويطرحوه من عقبة في الطريق، وعرض عليه بعض أصحابه أن يقطعوا رؤوسهم، أجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم: إني أكره أن يقول الناس إن محمدا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه. وعندما قال له أسيد بن حضير: يا رسول الله فهؤلاء ليسوا بأصحاب، أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: أليسوا يظهرون شهادة ألاإله إلا الله، أليسوا يظهرون أني رسول الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم، قال: فإني نهيت عن قتل أولئك «١» .
وكان بديل هذا الأسلوب، شيئا نادرا في تاريخ الدعوات. تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم خطط المنافقين وتخريبهم بيقظة كاملة، ولم يحدد أسلوبا (ثابتا) في مجابهة مواقفهم (المتلونة)(المتغيّرة) ، وإنما راح يضع لكل حالة خطة تتناسب تماما وحجم المحاولة التخريبية، وتكبتها قبل أن تجيء بثمارها المرة، وقبل أن تزرع شوكها في طريق الدعاة.. ومن وراء الرسول صلى الله عليه وسلم آيات القرآن الكريم تتنزل من الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، محللة التكوين النفسي