إن الآيات الواردة في حق المنافقين تلهم أن حركة النفاق إنما قام بها وتولى كبرها أفراد من البارزين في قومهم وعشائرهم قليلا أو كثيرا، بل إننا نكاد نقول إن أعظم أفراد هذه الفئة كانوا من تلك الطبقة، وإنه إذا كان اندمج فيها أناس من العامة فإنهم لم يكونوا كثيرين وإنما انساقوا فيها بتأثير أولئك من ناحية زعامتهم وعصبية الأرحام التي تربط بينهم، ومن ناحية الإغراء والمنفعة، وهذا طبيعي لأنه ليس لأفراد من العامة مناوأة حركة اندمج فيها غالب قومهم.. كما أنه قلما يكون في هؤلاء من يظن أنه أعقل من أن يندمج في حركة اندمجت فيها الكثرة الكبرى، وإن الذين اندفعوا في مناوأتها واغتاظوا منها وحقدوا عليها لا يمكن أن يكونوا إلا أفرادا من البارزين الذين يمكن أن يتوهموا فيها ضررا وخطرا على مركزهم ومصلحتهم، وأن يأنفوا هذا الحركة. فالذين أخذوا على عاتقهم مهمة تغذية هذه الحركة لا يمكن أن يتصلوا بشأنها إلا مع أمثال هؤلاء كما لا يخفى «١» .
اتخذت أساليب المنافقين أشكالا شتى، بعضها مخطط مدروس وبعضها عفوي مرتجل، وهي في كلتا الحالتين جاءت تعبيرا عن التكوين النفسي والاجتماعي لشخصية (المنافق) واستهدفت وضع الحواجز والعوائق في طريق الحركة الإسلامية.. وسنتتبع هنا أساليبهم هذه وفق مجراها الزمني منذ ظهور هذه الكتلة في أعقاب بدر حتى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
عندما حاصر الرسول صلى الله عليه وسلم بني قينقاع، أول قبيلة يهودية كبيرة تنقض عهدها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزلوا عند حكمه، بعد أن رأوا ألا فائدة من المقاومة، وجد عبد الله بن أبيّ أن انتصارا آخر- بعد بدر- سيحرزه المسلمون في داخل المدينة هذه المرة، وأن هذا ربما سيستفز أعداء الإسلام: عربا ويهودا، ويؤلبهم على المسلمين، وأن هؤلاء ربما وجدوا أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه.. فليتحرك زعيم المنافقين بسرعة إذن وليقف إلى جانب بني قينقاع مدافعا عنهم إزاء هجوم المسلمين، علّ الدائرة تدور على هؤلاء فيكون ابن أبيّ قد أوجد لنفسه ولأتباعه ثغرة ينفذون منها بجلودهم، سيما وأن يهود بني قينقاع كانوا مواليه في الجاهلية فلا يعقل أن يسلمهم لمصيرهم دون أن (يظهر) على الأقل إسناده في محنتهم.
تقدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم متوسلا: يا محمد أحسن في مواليّ. فلم يجبه