وأولئك المتفلسفة لما رأوا أن هذا القول مما يعلم بطلانه بصريح العقل وأنه يمتنع حدوث الحوادث بدون سبب حادث، ويمتنع كون الرب يصير فاعلاً بعد أن لم يكن وان المؤثر التام يمتنع تخلف أثره عنه - ظنوا أنهم إذا أبطلوا هذا القول فقد سلم لهم ما ادعوه من " قدم العالم " كالأفلاك وجنس المولدات ومواد العناصر، وضلوا ضلالاً عظيماً خالفوا به صرائح العقول، وكذبوا به كل رسول.
فإن الرسل مطبقون على أن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد ان لم يكن ليس مع الله شيء قديم بقدمه، وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام والعقول الصريحة تعلم ان الحوادث لا بد لها من محدث، فلو لم تكن إلا العلة القديمة الأزلية المستلزمة لمعلولها لم يكن في العالم شيء من الحوادث فإن حدوث ذلك الحادث عن علة قديمة أزلية مستلزمة لمعلولها ممتنع فإنه إذا كان معلولها لازماً لها كان قديماً معها لم يتأخر عنها، فلا يكون لشيء من الحوادث سبب اقتضى حدوثه فتكون الحوادث كلها حدثت بلا محدث، وهؤلاء فروا من أن يحدثها القادر بغير سبب حادث، وذهبوا إلى أنها تحدث بغير محدث أصلاً لا قادر ولا غير قادر فكان ما فروا إليه شراً مما فروا منه وكانوا شراً من المستجير من الرمضاء بالنار.
واعتقد هؤلاء أن المفعول المصنوع المبتدع المعين كالفلك يقارن فاعله أزلاً وأبداً لا يتقدم الفاعل عليه تقدماً زمانياً وأولئك قالوا: بل المؤثر التام يتراخى عنه أثره ثم يحدث الأثر من غير سبب اقتضى حدوثه، فأقام الأولون