وأما الآخرون من القائلين بأن الله متكلم بكلام قائم بذاته متعلق بمشيئته وإرادته فهم أصحاب الحديث أهل السنة والجماعة كأحمد بن حنبل الشيباني ومحمد بن إسماعيل البخاري وغيرهما من أئمة الإيمان رضي الله عنهم ذهبوا إلى أن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، لأن الكلام صفة كمال إذ أن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازماً لذاته وإذاً فلا يعقل خلوه تعالى عنه في الأزل، لأن الخلو عن الكمال نقص يستحيل على الله. ولأن الكلام إذا كان ممتنعاً عليه في الأزل، ثم صار متكلماً فيما لا يزال، فما الذي اقتضى انقلابه من الامتناع إلى الإمكان، مع أنه لم يتجدد في ذاته شيء يوجب ذلك الانقلاب فتبين أن الرب سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء بمعنى أن جنس كلامه قديم وتعاقب الكلمات وخروجها إلى الوجود شيئاً بعد شيء هو أمر ثابت لها لذواتها مثل تعاقب الأزمنة فكما أن أجزاء الزمان لا توجد مجتمعة، بل توجد على سبيل التعاقب آنا بعد آن، فكذلك الحروف التي هي أجزاء الكلمات لا يمكن النطق بها مجتمعة بحيث يكون النطق بالحرف الثاني مع الأول في آن واحد، بل لابد من وجودها على سبيل التعاقب والتسلسل حرفاً بعد حرف، فإذا قال الله عز وجل: حم أو طه فلا يعقل اجتماع الحرفين من كل من هاتين الآيتين بحيث ينطق بالميم مع الحاء، أو بالهاء مع الطاء بل تأتي الحروف مترتبات في النطق كما هي مترتبة في السماع. وإذا كان وجود وقتين من الزمان في وقت واحد غير معقول لأن الزمان كم متصل غير قار الذات لا يجتمع أجزاؤه في الوجود، فكذلك وجود حرفين من متكلم واحد في آن واحد مستحيل، وإنما يعقل ذلك في الرسم أي الكتابة أو إذا كان