باب الخطاب الذي يقع به الإفهام من القائل والفَهم من السامع:
يقع ذلك بين المتخاطبيْن من وجهين: أحدهما الإعراب، والآخر التصّريف. هذا فيمن يعرف الوجهين، فأمّا من لا يعرفهما فقد يمكن القائل إفهامُ السامع بوجوه يطول ذِكرها من إشارة وغير ذلك, وإنّما المُعَوَّل على ما يقع في كتاب الله جلّ ثناؤه من الخطاب أو في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو غيرهما من الكلام المشترك في اللفظ.
فأمّا الإعراب فبه تُميَّز المعاني ويُوقَف على أغراض المتكلمين. وذلك أنّ قائلاً لو قال:"ما أحسنْ زيدْ" غيرَ معرب أو "ضربَ عمرْ زيد" غير معرب لم يوقَف على مراده. فإن قال:"ما أحسنَ زيداً" أو "ما أحسنُ زيدِ" أو "ما أحسنَ زيدٌ" أبانَ بالإعراب عن المعنى الذي أراده.
وللعرب في ذلك ما ليس لغيرها: فهم يفْرُقون بالحركات وغيرها بين المعاني. يقولون "مِفْتَح" للآلة التي يُفتح بها. و"مفتح" لموضع الفتح و"مقص" لآلة القص. و"مقص" للموضع الذي يكون فيه القصّ. و"محلب" للقدَح يُحلب فيه و"محلب" للمكان يُحتلب فيه ذواتُ اللبن. ويقولون:"امرأة طاهر" من الحيض لان الرجل لا يَشْرَكها في الحيض. وطاهرة من العيوب لأن الرجل يَشْرَكها في هذه الطّهارة. وكذلك "قاعد" من الحبل و"قاعدة" من القعود.
ثم يقولون:"هذا غلاماً أحسن منه رجلاً" يريدون الحالَ في شخص واحد. ويقولون:"هذا غلام أحسنُ منه رجل" فهما إذاً شخصان.
وتقول:"كم رجلاً رأيتَ?" في الاستخبار و"كم رجلٍ رأيتَ" في الخبر يراد به التكثير. و"هن حَوَاجُّ بيتِ الله" إذا كنّ قد حججن. و"حَوَاجُّ بيتِ الله" إذا أردْن الحجَّ. ومن ذلك "جاء الشتاءُ والحَطَبَ" لم يُرِدْ أنَّ الحطب جاء، إنما أراد الحاجة إليه، فإن أراد مجيئَهما قال:"والحطبُ". وهذا دليل يدل على ما وراءه.
وأما التصريف فإنَّ من فاته علمه فاته المُعظَم، لأنا نقول:"وَجَدَ" وهي كلمة مبهمة فإذا صرفنا أفصحتْ فقلنا في المال "وُجْداً", وفي الضالة "وِجْداناً", وفي الغضب "مَوْجِدَةً" وفي الحزن "وَجْداً". وقال الله جلّ ثناؤه: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ