للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

باب التكرار:

وسُنن العرب التكرير والإعادة إرادةَ الإبلاغ بحسب العناية بالأمر كما قال الحارث بن عُبَاد١:

قَرّبا مرْبِط النَّعامةِ مِنّي ... لَقِحَتْ حَرْبُ وائِلٍ عن حِيالِ

فكرَّرَ قوله: "قَرِبا مربِط النّعامة مني" في رءوس أبيات كثيرة عناية بالأمر وأراد الإبلاغ في التنبيه والتحذير. وكذلك قول الأشعر٢:

وَكَتِيبَةٍ لبَّسْتها بكتيبة ... حتى يقول نساؤهم هذا فتى

فكرر هذه الكلمة في رءوس أبيات على ذلك المذهب. وكتكرير مَن كرَّر٣:

مَهْلاً بني عَمِّنا مهلاً موالينا

وكقول الآخر:

كم نعمة كانت لَهُ ... كَمْ كَمْ وَكَمْ

فكرّر لفظ "كم" لفرط العناية بقصد تكثير العدد. قال علماؤنا: فعلى هذه السنة ما جاء في كتاب الله جل ثناؤه من قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ٤.

فأما تكرير الأنباء والقِصَص في كتاب الله جل ثناؤه فقد قيلت فيه وجوه. واصح ما يقال فيه أن الله جل ثناؤه جعل هذا القرآن وعجْزَ القوم عن الإتيان بمثله أيةً لصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بيَّن وأوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القِصَّة في مَواضِعَ إعلاماً أنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاء وبأي عبارة عَبَّرَ. فهذا أولى ما قيل في هذا الباب.


١ الحيوان: ١/ ٢٢، ٣/ ٢٨٤، والأزهية: ٢٨٠، وفيهما: لقحت: حرب. والحارث حكيم وشاعر جاهلي، والنعامة: فرسه.
٢ الأصمعيات: ١٤٢، ونسبته إلى الأسعر الجعفي، وهو مرثد بن أبي حمران الحارث بن معاوية، جاهلي، ورواية البيت في الأصمعيات:
وكتيبة وجهتها لكتيبة ... حتى تقول سراتهم هذا الفتى
٣ أساس البلاغة: "نبش"، بلا عزو وعجزه: لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا.
٤ سورة الرحمن، الآية: ٢٥، ٢٨، وفي أماكن أخرى من السورة ذاتها.

<<  <   >  >>