للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

٨ - ابن المقداد: إن ماء أطفأ هذه النار لعظيم، وإن ريحا زعزعت هذا الركن لعصوف.

ولا يخفى ما في هذه الأقوال من استجلاب للجو الزهدي حول الدنيا وشؤونها، وإذا استثنينا القولين اللذين يقران لعضد الدولة بحسن النظر وقوة الركن، فإن الأقوال الأخرى إما تنحو نحو التعميم وإما تحاول أن تغض من قيمة الطموح الدنيوي كما يمثله ملك، وقد تتفق في بعض دلالتها مع بعض ما جاء في أقوال الحكماء الذين أبنوا الإسكندر. ولعل إيمان أولئك المفكرين؟ ولو نظريا - بالسيرة الفلسفية التي يمثلها سقراط هو المحرك في هذا كله، إذ كم يبدو التباين جليا بين ما يقوله أبو يليمان المنطقي في لحظة فلسفية وبين ما يقوله في وصف عضد الدولة في لحظة شعوره باليأس من السند المادي. وكذلك سائر هؤلاء المفكرين فإنهم تجنبوا أن يذكروا ما كان للرجل من أثر في تشجيع العلم والفلسفة، وكان قمة ما يصبون إليه لا أن يحاكوا الأقوال الزهدية يمثلها وحسب، بل أن يعتقدوا؟ وشيخهم أبو سليمان دليلهم إلى ذلك - أن كل ما يمكن أن يقال في ذلك الموقف قد أتى عليه أبو إسماعيل الهاشمي الخطيب حين قال على المنبر يوم الجمعة يرثي عضد الدولة: " كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك، وهلا اتخذت دونه جنة تقيك، ماذا صنعت بأموالك والعبيد، ورجالك والجنود، وبخولك العتيد، وبدهوك الشديد، هلا صانعت من عجل (؟) على السرير، وبذلت له من القنطار إلى القطمير، من أين أتيت وكنت شهما حازما، وكيف مكنت من نفسك وكنت قويا صارما؟ " (١) ، فكل هذه الأقوال ترد موردا واحدا، وإن كانت خطبة الخطيب أبلغ أسلوبا. ولدى سبط أبن الجوزي تعليق يقول فيه: " بين كلام هؤلاء وأولئك المتقدمين المتكلمين على تابوت الإسكندر كما بين الملكين في المساواة " (٢) . وليس الأمر كذلك بإطلاق، ولكن الذين حاكوا الأقوال القديمة حددوا لأنفسهم مجالا ضيقا، فلم يستطيعوا أن يقولوا شيئا يتعدى دائرة الزهد إلا قليلا.


(١) ذيل تجارب الأمم: ٧٦ - ٧٧.
(٢) هامش ذيل تجارب الأمم رقم: ٦ ص ٧٧ نقلا عن مرآة الزمان.

<<  <   >  >>