للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ولا أظنه غاب عن الجاحظ أن كل أمة كانت ذات نصيب من الأدب والشاعر، وأن اليوان - بالذات - كان لديهم شعرهم الخاص بهم، وهو الذي يروي أن زوسموس اليوناني سئل كيف يعلم الناس الشاعر، وهو ليس بشاعر، فأجاب: زوسيمون كالمسن الذي يشحذ ولا يقطع (١) .

وحين يبتعد شبح الشعوبية، يصبح الإقرار بحظ الشعوب الأخرى من الشعر والأدب جملة أمرا طبيعيا، يقول الزبير بن بكار: (٢٥٦/٨٢٩) كان لي غلام يسوق أهجنا لي ويرطن بالزنجية شيئا يوقع عليه شبه شعر، فمر بنا رجل يعرف لسانه، فاستمع له ثم قال، إنه يقول:

فقلت لها أنى أهتديت لفتية ... أناخوا بجعجاع قلائص سهما

فقالت كذاك العاشقون ومن يخف ... (٢) عيون الأعادي يجعل الليل سلما والشاهد أن ذلك الغلام الزنجي كان يتغنى بكلم موزون في لغته، فأما الترجمة لما قال، فإنها تومي إلى تقارب بين المعنيين، في أغلب الظن، لا أنها ترجمة دقيقة.

وفي عصر الجاحظ نفسه سمع حنين بن إسحاق (٢٦٠/٨٧٣) ذات مرة ينشد شعرا بالرومية لأوميرس رئيس شعراء يونان (٣) ، ولا ريب في أن الذي سمعه وأدرك أنه يتغنى بشعر، وأن الشعر إنما كان لأوميرس، كان يشارك حنينا في الاطلاع على شيء من الشعر اليوناني في لغته الأصلية. وإلى حنين وغيره من التراجمة يعود الفضل في اتساع المعرفة؟ نسبيا - بدور اليونان في الشعر، حتى إذا بلغنا إلى الفارابي وجدنا أن تلك المعرفة بلغت حدا من السعة لم تتجاوزه من بعد إلا قليلا.

ويعتمد الفارابي في أحكامه نظرة موضوعية مقارنة، فهو وقف على أشعار كثير


(١) الحيوان ١: ٢٩٠ (وكتب هنالك ريسموس) . وفي الكلم الروحانية لابن هندو: ٨٠ - ٨١ نسب هذا القول إلى سقراط، وجاء منسوبا إلى زوسيموس في منتخب الصوان: ١٠٢ (٢٥٤ط. طهران) وفي العقد ٢: ٢٦٨ نسب للخليل بن أحمد، وفي محاضرات االراغب الأصفهاني ١: ٥٥ لابن المقفع.
(٢) التوحيدي: البصائر والذخائر ٢: ١٥.
(٣) ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء ١: ١٨٥.

<<  <   >  >>