للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

خرافات ايسوب، لم تكن بطبيعة الحال من تأليف رجل واحد، وإنما تمثل تراثا واسعا، بعضه يوناني وبعضه غير يوناني، وأن اليونان عرفوا هذا اللون من الخرافات في عهد مبكر، يرقى إلى أيام ايسيودس (Hesiod) (١) ، وليس ثمة ما يمنع أن يرقى إلى أيام أوميرس نفسه. وقد كان هذا اللون من الأدب شفويا وشعبيا في آن معا، يدور على الالسنة، ويستغله المتمثل به بحسب مقتضى الحال أما لعبرة أخلاقية أو لتوضيح مسألة أو لتأكيد موقف جدلي (٢) . وقد أشار أرسطاطاليس إلى أهمية هذا اللون وفائدته في الخطابة وأورد ابن سينا مثالين من تلك الخرافات: أحدهما قول أحد المشيرين لقومه: إياكم وأن تصيروا بحالكم إلى ما صار إليه الفرس، عندما زاحمه الأيل في مرعاه ونغصه عليه ففزع إلى إنسان من الناس يعتصم بمعونته ويقول له: هل لك في إنقاذي من يدي هذا الايل؟ فأنعم الإنسان له الإجابة على شرط أن بالتقام ما يلجمه، وبتمطيته ظهره وهو ممسك قضيبا، فلما أذغن له صار فيما هو شر له من الايل، والثاني قول آخر: إني أوصيكم أن تستنوا بسنة الثعلب الممنو بالذبان، فقال له: وما فعل ذلك الثعلب؟ قال: بينما ثعلب يعبر نهرا من الأنهار إلى العبر الآخر إذ اكتنفته القنصة وحصل في حومة الكلب، فلم ير لنفسه مخلصا غير الانقذاف في وهدة غائرة انقذافا أثخنه، وكلما راود الخروج منه أعجزه، فلم ير إلا الاستسلام، وهو في ذلك إذ جهدته الذبان محتوشة إياه، وإذا في جواره قنفذ يشاهد ما به من الغربة والحيرة ولذع الذباب وانحلال القوة، فقال له: هل لك يا أبا الحصين في أن أذب عنك؟ فقال: كلا، ولا سبيل إلى ذلك، وإنه لمن الشفقة الضائرة ومن البر العاق، فقال له القنفذ: ولم ذلك؟ قال: اعلم أن هؤلاء الذبان قد شغلت المكان فلا موقع لغيرهم من بدني، وقد امتصت ريها من دمي، فهي الآن هادئة، فإن ذبت خلفها جماعة أخرى غراث كلبي تنزف بقية دمي (٣) .

كذلك فإن العناصر التي يمثلها إيسوب من حدة وسرعة خاطر ومفاجأة وإفحام وعمق في الحكمة، كانت محببة لدى العرب، مستقرة في تراثهم منذ عهد بعيد، فلا غرابة إذا هم رأوها أيضا في شخص مقدم في الشعر والحكمة مثل أوميرس، فانبهم لديهم التمييز بين الرجلين. وهذا ينقلنا إلى الحديث عن شخصية إيسوب وأدبه عند العرب، في الفصل التالي.


(١) انظر دالي: ١٢.
(٢) المصدر السابق: ١٤.
(٣) الخطابة لابن سينا: ١٦٨ - ١٦٩.

<<  <   >  >>