للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وأما عصريه أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بالأبيض فأصله من قرية همدان، وقد درس باشبيلية وقرطبة، وكان إلى جانب شهرته بالشعر من مشهوري الوشاحين. سئل مرة عن كلمة فلم يعرفها، فآلى ان يقيد نفسه ولا يفك قيده حتى يحفظ كتاب " الغريب المصنف " (١) ، وقد نشب في الهجاء وشهر به، وكانت اكثر اهاجيه في الزبير أحد أمراء الملثمين بقرطبة ومن أهاجيه فيه:

عكف الزبير على الظلالة جاهدا ... ووزيره المشهور كلب النار

ما زال يأخذ سجدة في سجدة ... بين الكؤوس ونغمة الأوتار

فإذا اعتراه السهو سبح خلفه ... صوت القيان ورنة الأوتار وكان الأبيض جريئا قوي النفس. أحضره الزبير ووبخه على الهجاء وقال له: ما دعاك إلى هذا؟ فقال له: إني لم أر أحق بالهجو منك ولو علمت ما أنت عليه من المخازي لهجوت نفسك إنصافا ولم تكلها إلى أحد، فلما سمع الزبير ذلك قامت قيامته وأمر بقتله (٢) .

ولم يكن صوت النقد الموجه ضد الحكام قويا جهيرا في أيام ملوك الطوائف مما قد يدل على انسياق الأدب شعره ونثره في ركاب كل واحد من أولئك الأمراء، ولذلك انحصر الأدب بولاء إقليمي قاصر النظرة محدود الأفق، ففقد قوة الحدس التي تتمتع بها النظرة الشاملة العميقة. وكانت ابرز مظاهره النقدية تلك اللذعات التي يوجهها أمثال السميسر في مقطعاتهم القليلة، أو تلك الحسرات المبهمة التي يرددها الأتقياء الزهاد عن سوء الأحوال السياسية والاجتماعية. أما في أغلب الأحوال فان ثورة


(١) النفح ٥: ٣٦ والمغرب ٢: ١٢٧.
(٢) النفح ٥: ٣٧.

<<  <   >  >>