كانت العربية في العصر الجاهلي نقية صافية بفضل الطّبيعة الجغرافية لأرض العرب؛ فالبحر يحيط بجزيرتهم من ثلاث جهات فيحجزهم عن الأمم المجاورة، وتحدّ حياتهم القبليَّة وطبائعهم الاجتماعية من انسياحهم في الأرض باتِّجاه الشَّمال.
لقد هيَّأهم الله - عزَّ وجل - بذلك لأمر عظيم، وهيَّأ لغتهم لأن تكون أداة لذلك الأمر، فكانت لغتهم نقية من الشَّوائب صافية حين نزل القرآن الكريم على نبي الرَّحمة والهدى محمد - صلى الله عليه وسلم -.
كانت العربية في ذلك الوقت نقية تنساب على ألسنة أبنائها بيسر وسهولة في أصواتها وأبنيتها وتراكيبها دون حاجة إلى إعمال فكر أو تكلُّف، وهم يفهمون دلالتها بالفطرة الَّتي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، ولم تكن ثمة حاجة لما يعضد السَّليقة وُيقوِّيها كاللُّجوء إلى ضوابط أو قواعد تأتي من خارج الفطرة، فقد كانت السَّليقة اللُّغويَّة هي المهيمنة، وهي الحامية من الخطأ.
ثم جدَّت أمور، وتبدلت أحوال، فتكدَّر صفو اللُّغة، وضعفت السَّلائق واختلَّت، فنشأت الحاجة إلى ضوابط للغة من خارج السليقة يلجأ إليها المتكلِّم، وتساعد السَّامع على فهم اللُّغة على الوجه الأكمل.
وكان ظهور ذلك على وجه التَّحديد في الصدر الأول للإسلام إبَّان الخلافة الرَّاشدة في المدينة، ثم تفاقم الأمر وازدادت الحاجة - فيما بعد - فتهيأت العوامل لنشأة الدَّرس اللّغوي ابتداءً في المدينة، كظهور اللحن، وتهديده لغة الدِّين الإِسلامي، وزحفه إلى النَّص القرآني الكريم.