قال شيخ الإسلام ابن تيمية تعقيباً على ذلك: هذا القول: هو في الأصل معروف عمن قاله من القدرية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام وإنما قاله من قاله من الأشعرية موافقة لهم، ولهذا قال أبو جعفر السمناني: القول بإيجاب النظر: بقية بقيت في المذهب من أقوال المعتزلة ... ثم قال – وليس إيجاب النظر على الناس هو قول الأشعرية كلهم، بل هم متنازعون في ذلك. فقال الأشعري في بعض كتبه: قال بعض أصحابنا: أول الواجبات الإقرار بالله تعالى وبرسله وكتبه ودين الإسلام. وقال أيضا: لو سأل سائل عمن ورد من الصين ورأى الاختلاف ماذا يلزمه؟ فقال عنه جوابان: أحدهما: أنه يلزمه النظر ليعرف الحق فيتبعه. والثاني: يلزمه إتباع الحق وقبول الإسلام ثم تصحيح المعرفة بالنظر والاستدلال على أقل ما يجزئه. (درء التعارض ٧/٤٠٧) وقد أنكر: القشيري أن يكون الأشعري قال: بتكفير العوام – فقال: وأما ما قالوا: أن الأشعري يقول بتكفير العوام فهو أيضا كذب وزور ... ثم قال فنحن نحكم لجميع عوام المسلمين بأنهم مؤمنون مسلمون في الظاهر ونحسن الظن بهم ونعتقد أن لهم نظرا واستدلالا في أفعال الله وأنهم يعرفونه سبحانه والله أعلم بما في قلوبهم ... وقال- فإن قالوا: فالأشعري يقول إن العوام إذا لم يعلموا علم الكلام فهم أصحاب التقليد، فليسوا بمؤمنين قيل هذا تلبيس، ونقول: إن الأشعري: لا يشترط في صحة الإيمان ما قالوا من علم الكلام بل هو وجميع أهل التحصيل من أهل القبلة يقولون يجب على المكلف أن يعرف الصانع المعبود بدلائله التي نصبها على توحيده واستحقاق نعوت الربوبية، وليس المقصود استعمال ألفاظ المتكلمين من الجوهر والعرض. انظر: (شكاية أهل السنة ضمن طبقات الشافعية ٢/٢٨٥-٢٨٦) . وهذه المسألة تعرف بمسألة وجوب الاستدلال على معرفة الله، ووجوب النظر والاستدلال مع أنه قول المعتزلة وكثير من الأشاعرة، فهو أيضا قول كثير من أتباع الأئمة الأربعة: كأبي الفرج المقدسي الحنبلي. انظر: (درء التعارض ٨/٤) و (أبي الفرج البغداي صاحب محجة الساري إلى معرفة الباري (المصدر السابق ص٢٥) وأبي يعلى (المصدر السابق ٧/٤٤٢) و (ابن الزاغوني نفس المصدر ٤٤٣) وغيرهم، مع اختلافهم في كيفية الاستدلال. والواقع أننا إذا نظرنا في النصوص الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب نجد أنه صلى الله عليه وسلم: ما كان يأمر أحداً بالنظر والاستدلال ابتداء، ليدخل في الإسلام، وما كان يدعوا الناس إلى ذلك عندما يغزوهم ويدعوهم للإسلام، بل كان أول ما يدعوهم إليه: الشهادتان، وبذلك أمر معاذ بن جبل في الحديث الصحيح لما بعثه إلى اليمن فقال له: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات.." م / كتاب الإيمان / باب الدعاء إلى الشهادتين ١/٥٠حـ٢٩. وبين صلى الله عليه وسلم انه يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله.. " خـ ١/ ٧٥حـ٢٥، ولم يقل حتى يستدلوا على معرفة الله. فإذا قالوها كف عن قتالهم وقبل إسلامهم، ولم يؤمر بمطالبتهم بالاستدلال على معرفة معبودهم، ومِنْ ثَمَّ أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قتله الرجل بعد تلفظه بالشهادة وقال له صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قال- أسامة قلت يا رسول الله إنما كان متعوذا، قال قتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ قال فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم " خـ ١٢/ ١٩١ كتاب الديات حـ ٢/٦٨٧. فدل ذلك على أن من تلفظ بكلمة التوحيد دخل في الإسلام، وحرم دمه، وإن لم يستدل. قال شيخ الإسلام: (وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين، وعلماء المسلمين، فإنهم مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين، سواء كان معطلاً أو مشركا أو كتابياً بذلك يصير الكافر مسلما ولا يصير مسلما بدون ذلك. وقال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأن كل ما جاء به محمد حق وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام – وهو بالغ صحيح يعقل – أنه مسلم ... ) انظر الإجماع لابن المنذر ١٥٤. ودرء التعارض ٨/٧. قلت: وهذا هو المذهب الحق في هذه المسالة الذي ندين الله به؛ لأنه هو الثابت المأثور عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وسائر أصحابه الذين فتحوا البلدان بعده وفي عهده، لم يؤثر عنهم انهم كانوا يدعون الناس إلى النظر والاستدلال وإنما كانوا يدعونهم إلى الشهادتين أولاً ويكتفون منهم بها، ويكفون عن قتال من قالها.