إن الناظر في الحالتين السياسية والاجتماعية - كما ذكرت سابقاً - سيقول: إن الناحية العلمية ضعيفة هزيلة شأنها شأن غيرها مما سبق ذكره لما بينهما من علاقة وترابط، ولكن ما حصل للناحية العلمية كان العكس فالفترة التي عاش فيها الأشعري كانت نتيجة لثمرة طيبة أرسى جذورها جهابذة١ هذه الأمة، وكانت هذه الفترة من أزهى عصور الإسلام الثقافية والعلمية، حيث كتب الناس في معظم العلوم.
فالسنة المطهرة كانت قد جمعت بأدق طرق الجمع والتحصيل على يد أئمة السنة والمحدثين، واقتضى ذلك ظهور علم الجرح والتعديل، وهكذا كان الأمر بالنسبة لتفسير القرآن الكريم، فالصحابة ومن بعدهم من التابعين كانوا يعطون هذا الأمر حقه، ويفسرون كتاب الله تعالى بأقوم وأسلم طريق، ولن تجد آية من كتاب الله إلا ولهم فيها قول.
كما أخذ الفقه وأصوله حقه في هذا العصر، حيث كان الفقهاء الأربعة وكانت آثارهم في المسائل العلمية الدقيقة تمت ونضجت قبل الأشعري، وورث الناس عنهم هذا العلم وتداولوه كما برز الأدباء منهم، وكثر التأليف عموماً في مجالات الثقافة المختلفة.
أما من ناحية العقيدة، فكانت في هذه الفترة - رغم تمسك أهل السنة والحديث بعقيدة السلف كالإمام أحمد والبخاري - تمر بمحنة خطيرة نظراً لظهور الفلسفة وعلم الكلام وموافقة بعض خلفاء العباسيين لأهل الكلام على آرائهم ومعتقداتهم، وكان نتيجة ذلك أن تفرقت الأمة، وظهر كثير من المبتدعة والفرق الضالة التي لعبت دوراً كبيراً في إفساد عقائد المسلمين وإحلال الفكر الفلسفي في قلوب الكثير، وإن نظرة خاطفة لكتاب "مقالات الإسلاميين" الذي ألفه الأشعري لخير دليل على ما نقول.
١ جهابذة جمع جهبذ وجهباذ، وهو النقاد الخبير بغوامض الأمور، وهي كلمة معربة عن الفارسية. (انظر: المعجم الوسيط ٢/١٤١ من الطبعة الثانية لمجمع اللغة العربية بالقاهرة) .