للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وصار علماً من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم فإنه قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة؛ وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة". قالوا من (١) هي يا رسول الله؟

قال: "ما كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (٢) .

وفي (٣) الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما هلك من كان


(١) في جميع النسخ: "ما هي"، والمثبت كما في المصادر التي خرجت الحديث.
(٢) سبق تخريجه.
(٣) من هنا وقع خلاف في سياق كلام المصنف بين النسخة (الأصلية) ، وبين النسخة "م" و"ش"، ونص ما في النسخة"م".
"وقد ذكر هذا العراقي المغالط المماحل من جملة أكاذيبه، وصدفه الجهال عن الحق أن الاستشفاع بالأنبياء والصالحين مجمع عليه، فيا ويحه ما أجرأه.
والجواب من وجوه:
الأول: أن الاستشفاع بالأنبياء والصالحين ينافي الإخلاص الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وذكر تعالى أن اتخاذ الشفعاء هو دين المشركين وكفَّرهم به في سورة الزمر وأخبر في سورة يونس أنه هو الشرك وأبطل هذا الاستشفاع في آيات كثيرة ونهى عنه أشد النهي وأبطله تعالى في كتابه بضرب الأمثال. وقد تقدم من الأدلة ما يدل على ذلك ويوضحه ويحقق أن اتخاذ الشفعاء من الشرك الذي لا يغفره الله.
الوجه الثاني: أن هذا الإجماع الذي ذكره قد أجمع عليه قوم نوح لما عبدوا الأصنام التي صورها على صور الصالحين.
قال من عبدها من دون الله: "ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم من دون الله" فبعث الله نبيه نوحاً عليه السلام ينهاهم عن عبادتها واتخاذها وسائط، وكذلك
أهل الجاهلية لما أحدث فيهم الشرك عمرو بن لحي، وفرق أصنام قوم نوح من قبائل العرب فعلوا كفعل قوم نوح فاتخذوا شفعاء فبعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ينهى عن هذا الاستشفاع الذي أجمعت عليه الأمم المكذبين للرسل وأهل الجاهلية وأنزل القرآن بالنهي عن ذلك كما تقدم.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن عبسه ما يدل على غربة الإسلام في ابتدائه لما قال له: "من معك على هذا؟ قال حر وعبد"ز الدعاء لغير الله، ويزعمون أنه أسرع فرجاً من الله فهذا هو الإجماع الذي يحكيه داود بن جرجيس، وهو أنهم أجمعوا على الشرك في هذه القرون إلا بقايا من أهل السنة فحدث بهذا الإجماع الذي ذكره من أنواع الشرك ما يخالف المنقول والمعقول والفطر والكتب والرسل فحصل بهذا الإجماع من أنواع الكفر بالله ما لا يحصى.
وأما الإجماع الصحيح الذي يستند إلى القعول الصحيحة والفطر السليمة والرسل والكتب فهو إجماع الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة والفقهاء والمفسرين وأهل الحديث من أهل القرون الثلاثة المفضلة.
وقد كان هذا الشرك لا يوجد فيهم، وكانوا يشددون في دقائق الشرك بالإنكار كالحلف بغير الله، وتعليق التمائم، وقطعها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى على عمران بن حصين حلقة من صفر قال: "ما هذه؟، قال: من الواهنة فقال: "انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل".
ولما قال له رجل: أنت سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا، قالك "قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله".
وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله". وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد"، وقال: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما فعلوا، ولو ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً".
وقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله".
وقد كثر في هذه الأمة بناء المساجد على القبور، وبناء المشاهد، فصاروا به من شرار الخلق بنص الحديث.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده".
وقال: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"، وقد حرق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الغالية، وخدّ لهم الأخاديد، وأضرمها بالنار، فقذفهم فيها فلو تتبعنا ما ورد في هذا الباب لطال الجواب، وعلى هذا أجمع السلف-رضي الله عنهم- ومن بعدهم كما تقدم، وذكروا في معنى قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . قول القائل: لولا الله وأنت، ولولا كليبة فلان لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص.
ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين والأئمة سؤال الميت ولا السؤال به، وقد خرج عمر –رضي الله عنه –بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء، وقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون"
فلو كان التوسل بذات الميت جائزة، لما عدل عمر والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار إلى العباس، مع قرب الحجرة التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لأن الاستسقاء إنما هو بدعاء الحي الحاضر، وكل ما ذكرنا قد مضى بزيادة بيان وتقرير، وقد تقدم ما ذكره شيخ الإسلام –رحمه الله –من الإجماع على كفر متخذي الوسائط قال: "من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم كفر إجماعاً، فهذا هو الإجماع الصحيح الموافق للكتاب والسنة وبالله التوفيق.
وقد عرضت مما تقدم أن الاستشفاع بالأموات والغائبين ينافي الإخلاص، لأن المستشفع يقبل على من اتخذه شفيعاً بقلبه، وروحه، ولسانه، ومحبته لذلك، وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، وأهل الإخلاص هم الأقلون عدداً في كل زمان كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون} .
وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِين} .
وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .
وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} ، وأخبر تعالى أنهم كثيرون على ما كانوا عليه من العلم والعبادة فما نفعهم ذلك مع صدهم عن سبيل الله، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب، والآيات في هذا المعنى كثير، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهذه الجماعة،
فالحديث دل على أن أهل النار في أواخر هذه الأمة هم الأكثرون، وهم الذين احتج بهم داود في بهرجه أنهم أجمعوا على ما زينه من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فبهذا يتبين أن أهل الحق هم الأقلون، خلافاً لما يزعمه هؤلاء الجاهلون الملحدون، وفي الحديث: "إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب"، فما احتج به داود من الإجماع صار حجة عليه بما ذكرنا من غربة الإسلام، وقلة أهله، ومشابهة آخر هذه الأمة لليهود والنصارى يتركهم الحق، وانحرافهم إلى الباطل، واتخاذه ديناً، ومشابهتهم لليهود والنصارى في كل ما فعلوا والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن في أمته مضاهاة لليهود والنصارى، ولفارس، والروم، والواقع يشهد لذلك، فكل من الكتاب والسنة، واستدل بالأغلوطات والشطحات فقوله مردود عليه بصريح الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة.
وقد قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ. كِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} .

<<  <   >  >>