وأما على الرواية الثالثة: فالإستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال ومن أحسن ما قيل في ذلك ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله قال: هذا من أجود الأحاديث وأحكمها: "إذا كان يوم يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم فيتحمل الله عز وجل ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة" خرجه البيهقي في شعب الإيمان وغيره وعلى هذا فيكون المعنى: أن الصيام لله عز وجل فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام بل أجره مدخر لصاحبه عند الله عز وجل وحينئذ فقد يقال: إن سائر الأعمال قد يكفر بها ذنوب صاحبها فلا يبقى لها أجر فإنه روي: أنه يوازن يوم القيامة بين الحسنات والسيئات ويقص بعضها من بعض فإن بقي من الحسنات حسنة دخل بها صاحبها إلى الجنة قاله سعيد بن جبير وغيره وفيه حديث مرفوع خرجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا فيحتمل أن يقال في الصوم إنه لا يسقط ثوابه بمقاصة ولا غيرها بل يوفر أجره لصاحبه حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها.
وأما قوله:"فإنه لي" فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال وقد كثر القول في معنى ذلك من الفقهاء والصوفية وغيرهم وذكروا فيه وجوها كثيرة ومن أحسن ما ذكر فيه وجهان:
أحدهما: أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز وجل ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام لأن الإحرام إنما يترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب وكذلك الإعتكاف مع أنه تابع للصيام وأما الصلاة فإنه وإن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول فلا يجد المصلي فقد الطعام والشراب في صلاته بل قد نهي أن يصلي ونفسه تشوق إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه ولهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة.
وذهبت طائفة من العلماء إلى إباحة شرب الماء في صلاة التطوع وكان ابن الزبير يفعله في صلاته وهو رواية عن الإمام أحمد وهذا بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله فيجد الصائم فقد هذه الشهوات وتشوق نفسه إليها خصوصا في نهار الصيف لشدة حره وطوله ولهذا روي:"أن من خصال الإيمان الصوم في الصيف" وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم رمضان في السفر في شدة الحر دون أصحابه كما قاله أبو الدرداء: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في سفر وأحدنا يضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة.