بذلك جسده فإنه غير مأمور بذلك ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم له:"من أمرك أن تعذب نفسك" وأعادها عليه ثلاث مرار وهذا كما قاله لمن رآه يمشي في الحج وقد أجهد نفسه: "إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه فمروه فليركب".
وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص حيث كان يصوم النهار ويقوم الليل ويختم القرآن في كل ليلة ولا ينام مع أهله فأمره: أن يصوم ويفطر ويقرأ القرآن في كل سبع وقال له "إن لنفسك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا فآت كل ذي حق حقه" ولما بلغه عن بعض الصحابة أنه قال: أنا أصوم ولا أفطر وقال آخر منهم: أنا أقوم ولا أنام وقال آخر منهم: لا أتزوج النساء فخطب وقال: "ما بال رجال يقولون: كذا وكذا: لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وسبب هذا: أن الله تعالى خلق ابن آدم محتاجا إلى ما يقوم به بدنه من مأكل ومشرب ومنكح وملبس وأباح له من ذلك كله ما هو طيب حلال تقوى به النفس ويصح به الجسد ويتعاونان على طاعة الله عز وجل وحرم من ذلك ما هو ضار خبيث يوجب للنفس طغيانها وعماها وقسوتها وغفلتها وأشرها وبطرها فمن أطاع نفسه في تناول ما تشتهيه مما حرمه الله عليه فقد تعدى وطغى وظلم نفسه ومن منعها حقها من المباح حتى تضررت بذلك فقد ظلمها ومنعها حقها فإن كان ذلك سببا لضعفها وعجزها عن أداء شيء من فرائض الله عليه وحقوق الله عز وجل أو حقوق عباده كان بذلك عاصيا وأن كان ذلك سببا للعجز عن نوافل هي أفضل مما فعله كان بذلك مفرطا مغبونا خاسرا.
وقد كان رجل في زمن التابعين يصوم ويواصل حتى يعجز عن القيام فكان يصلي الفرض جالسا فأنكروا ذلك عليه حتى قال عمرو بن ميمون: لو أدرك هذا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لرجموه وكان ابن مسعود يقل الصيام ويقول: إنه يضعفني عن قراءة القرآن وقراءة القرآن أحب إلي.
وأحرم رجل من الكوفة فقدم مكة وقد أصابه الجهد فرآه عمر بن الخطاب وهو سيء الهيئة فأخذ عمر بيده وجعل يدور به الحلق ويقول للناس: انظروا إلى ما يصنع هذا بنفسه وقد وسع الله عليه فمن تكلف من التطوع ما يتضرر به في جسمه كما فعل هذا الباهلي أو يمنع به حقا واجبا عليه كما فعل عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره ممن عزم على ترك المباحات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ينهى عن ذلك ومن احتمل بدنه ذلك ولم يمنعه من حق واجب عليه لم ينه عن ذلك