صام بعض التابعين حتى أسود من طول صيامه وصام الأسود بن يزيد حتى اخضر جسمه واصفر فكان إذا عوتب في رفقه بجسده يقول: كرامة هذا الجسد أريد وصام بعضهم حتى وجد طعم دماغه في حلقه كان بعضهم يسرد الصوم فمرض وهو صائم فقالوا له: افطر فقال: ليس هذا وقت ترك وقيل لآخر منهم وهو مريض: افطر فقال: كيف وأنا أسير لا أدري ما يفعل بي مات عامر بن عبد الله بن الزبير وهو صائم ما أفطر ودخلوا على أبي بكر بن أبي مريم وهو في النزع وهو صائم فعرضوا عليه ماء ليفطر فقال: أغربت الشمس؟ قالوا: لا فأبى أن يفطر ثم أتوه بماء وقد اشتد نزعه فأومأ إليهم أغربت الشمس؟ قالوا: نعم فقطروا في فيه قطرة من ماء ثم مات واحتضر إبراهيم بن هانيء صاحب الإمام أحمد وهو صائم وطلب وسأل أغربت الشمس؟ فقالوا: لا وقالوا له: قد رخص لك في الفرض وأنت متطوع قال: أمهل ثم قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}[الصافات:٦١] ثم خرجت نفسه وما أفطر الدنيا كلها شهر صيام المتقين وعيد فطرهم يوم لقاء ربهم ومعظم نهار الصيام قد ذهب وعيد اللقاء قد اقترب.
وقد صمت عن لذات دهري كلها ... ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي
ولما كان الصيام سرا بين العبد وبين ربه اجتهد المخلصون في إخفائه بكل طريق حتى لا يطلع عليه أحد قال بعض الصالحين: بلغنا عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال: إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته ويمسح شفتيه من دهنه حتى ينظر إليه الناظر فيظن أنه ليس بصائم وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا أصبح أحدكم صائما فليترجل ـ يعني يسرح شعره ـ ويدهنه وإذا تصدق بصدقة عن يمينه فليخفها عن شماله وإذا صلى تطوعا فليصل داخل بيته وقال أبو التياح: أدركت أبي وشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن ولبس صالح ثيابه.
صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد كان له دكان فكان كل يوم يأخذ من بيته رغيفين ويخرج إلى دكانه فيتصدق بهما في طريقه فيظن أهله أنه يأكلهما في السوق ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته قبل أن يجيء اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام فكان يقوم يوم الجمعة في مسجد الجامع فيأخذ إبريق الماء فيضع بلبلته في فيه ويمتصها والناس ينظرون إليه ولا يدخل حلقه منه شيء لينفي عن نفسه ما اشتهر به من الصوم كم يستر الصادقون أحوالهم وريح الصدق.