إلا جهاد من لم يرجع من نفسه بشيء ويكون هو المراد من حديث أبي هريرة ويجتمع حينئذ الحديثان.
والثاني: وهو الأظهر: أن العمل المفضول قد يقترن به ما يصير أفضل من الفاضل في نفسه كما تقدم وحينئذ فقد يقترن بالحج ما يصير به أفضل من الجهاد وقد يتجرد عن ذلك فيكون الجهاد حينئذ أفضل منه فإن كان الحج مفروضا فهو أفضل من التطوع بالجهاد فإن فروض الأعيان أفضل من فروض الكفايات عند جمهور العلماء وقد روي هذا في الحج والجهاد بخصوصهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص وروي مرفوعا من وجوه متعددة في أسانيدها لين وقد دل على ذلك ما حكاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أنه قال: "ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه" وإن كان الحاج ليس من أهل الجهاد فحجه أفضل من جهاده كالمرأة.
وفي صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله ترى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ فقال:"أفضل الجهاد حج مبرور" وفي رواية له: "جهادكن الحج" وفي رواية له: "نعم الجهاد الحج" وكذلك إذا استغرق العشر كله عمل الحج وأتى به على أكمل وجوه البر من أداء الواجبات واجتناب المحرمات وانضم إلى ذلك الإحسان إلى الناس ببذل السلام وإطعام الطعام وضم إليه كثرة ذكر الله عز وجل والعج والثج وهو رفع الصوت بالتلبية وسوق الهدي فإن هذا الحج على هذا الوجه قد يفضل على الجهاد وإن وقع عمل الحج في جزء يسير من العشر ولم يؤت به على الوجه المبرور فالجهاد أفضل منه وقد روي عن عمر وابن عمر وأبي موسى الأشعري ومجاهد ما يدل على تفضيل الحج على الجهاد وسائر الأعمال وينبغي حمله على الحج المبرور الذي كمل بره واستوعب فعله أيام العشر والله أعلم.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" هل يقتضي تفضيل كل عمل صالح وقع في شيء من أيام العشر على جميع ما يقع في غيرها وإن طالت مدته أم لا؟ قيل: الظاهر والله أعلم أن المراد أن العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها فكل عمل صالح يقع في هذا العشر فهو أفضل من عمل في عشرة فهو أفضل من عمل في عشرة أيام سواها من أي شهر كان فيكون تفضيلا للعمل في كل يوم منه على العمل في كل يوم من أيام السنة غيره.