للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فجمع النبىّ عليه الصلاة والسلام بين الأمرين: تغيير الفطرة بالتهويد والتنصير، وتغيير الخلقة بالجدع، وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لا بد أن يغيرهما، فغير فطرة الله بالكفر، وهو تغيير الخلقة التى خلقوا عليها، وغير الصورة بالجدع والبتك، فغيروا الفطرة إلى الشرك، والخلقة إلى البتك والقطع، فهذا تغيير خلقة الروح، وهذا تغيير خلقة الصورة.

ثم قال: {يعدهم ويمنيهم} [النساء: ١٢٠] فوعده ما يصل إلى قلب الإنسان، نحو: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا إربك، وستعلو على أقرانك، وتظفر بأعدائك، والدنيا دول ستكون لك كما كانت لغيرك، ويطول أمله، ويعده بالحسنى على شركه ومعاصيه، ويمنيه الأمانى الكاذبة على اختلاف وجوهها، والفرق بين وعده وتمنيته أن الوعد فى الخير والتمنية فى الطلب والإرادة، فيعده الباطل الذى لا حقيقة له- وهو الغرور- ويمنيه المحال الذى لا حاصل له. ومن تأمل أحوال أكثر الناس وجدهم متعلقين بوعده وتمنيه وهم لا يشعرون أنه يعد الباطل، ويمنى المحال، والنفس المهينة التى لا قدر لها تغتذى بوعده وتمنيته، كما قال القائل:

مُنًى إنْ تَكُنْ حَقا تَكُنْ أحْسَنَ المُنَى ... وَإِلا فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَناً رَغْدا

فالنفس المبطلة الخسيسة تلتذ بالأمانى الباطلة والوعود الكاذبة، وتفرح بها، كما يفرح بها النساء والصيبان ويتحركون لها، فالأقوال الباطلة مصدرها وعد الشيطان وتمنيه، فإن الشيطان يمنى أصحابها الظفر بالحق وإدراكه، ويعدهم الوصول إليه من غير طريقه، فكل مبطل فله نصيب من قوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً} [النساء: ١٢٠] .

ومن ذلك قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} [البقرة: ٢٦٨] .

قيل: {يعدكم الفقر} [البقرة: ٢٦٨] : يخوفكم به، يقول: إن أنفقتم أموالكم افتقرتم، {ويأمركم بالفحشاء} [البقرة: ٢٦٨] قالوا: هى البخل فى هذا الموضع خاصة، ويذكر عن مقاتل والكلبى كل فحشاء فى القرآن فهى الزنا إلا فى هذا الموضع فإنها البخل.

والصواب: أن الفحشاء على بابها، وهى كل فاحشة، فهى صفة لموصوف محذوف، فحذف موصوفها إرادة للعموم، أى بالفعلة الفحشاء والخلة الفحشاء، ومن جملتها البخل، فذكر سبحانه وعد الشيطان وأمره يأمرهم بالشر ويخوفهم من فعل الخير، وهذان الأمران هما جماع ما يطلبه الشيطان من الإنسان فإنه إذا خوفه من فعل الخير تركه، وإذا أمره بالفحشاء وزينها له ارتكبها، وسمى سبحانه تخويفه وعد الانتظار الذى خوفه إياه كما ينتظر الموعود ما وعد به ثم ذكر سبحانه وعده على طاعته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهى المغفرة

<<  <  ج: ص:  >  >>