ثم يشك: هل فعل ذلك أم لا؟ وكذلك يشككه الشيطان فى نيته وقصده التى يعلمها من نفسه يقينا، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله. ومع هذا يقبل قول إبليس فى أنه ما نوى الصلاة، ولا أرادها، مكابرة منه لعيانه، وجحدا ليقين نفسه، حتى تراه متلددا متحيراً، كأنه يعالج شيئاً يجتذبه، أو يجد سيئًا فى باطنه يستخرجه. كل ذلك مبالغة فى طاعة إبليس، وقبول وسوسته، ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية فى طاعته.
ثم إنه يقبل قوله فى تعذيب نفسه ويطيعه فى الإضرار بجسده، تارة بالغوص فى الماء البارد، وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك. وربما فتح عينيه فى الماء البارد، وغسل داخلهما حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلى كشف عورته للناس، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزئ به من يراه.
قلت: ذكر أبو الفرج بن الجوزى عن أبى الوفاء بن عقيل: "أن رجلاً قال له: أنغمس فى الماء مرارا كثيرة وأشك: هل صح لى الغسل أم لا؟ فما ترى فى ذلك؟ فقال له الشيخ: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة. قال: وكيف؟ قال: لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَالنّائمِ حَتَّى يَسْتَيقِظَ، وَالصَّبىِّ حَتّى يَبْلُغَ".
ومن ينغمس فى الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا، فهو مجنون".
قال: وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ويشغله بوسوسته فى النية حتى تفونه التكبيرة الأولى، وربما فوت عليه ركعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا، ثم يكذب.
قلت: وحكى لى من أثق به عن موسوس عظيم رأيته أنا يكرر عقد النية مرارا عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة، فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة فلم يدعه إبليس حتى زاد، ففرق بينه وبين امرأته، فأصابه لذلك غم شديد وأقاما متفرقين