للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فضرب لوحيه المثل بالماء، لما يحصل به من الحياة، وبالنار لما يحصل بها من الإضاءة والإشراق، وأخبر سبحانه أن الأودية تسيل بقدرها، فواد كبير يسع ماء كثيراً، وواد صغير يسع ماء قليلا. كذلك القلوب مشبهة بالأودية، فقلب كبير يسع علما كثيراً، وقلب صغير إنما يسع بقدره. وشبه ما تحمله القلوب من الشبهات والشهوات، بسبب مخالطة الوحى لها، وإمارته لما فيها من ذلك، بما يحتمله السيل من الزبد. وشبه بطلان تلك الشبهات باستقرار العلم النافع فيها، بذهاب ذلك الزبد، وإلقاء الوادى له، وإنما يستقر فيه الماء الذى به النفع. وكذلك فى المثل الذى بعده: يذهب الخبث الذى فى ذلك الجوهر، ويستقر صفوه.

وأما ضرب هذين المثلين للعباد، فكما قال فى سورة البقرة:

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِروُنَ صُم بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة: ١٧-١٨] .فهذا المثل النارى ثم قال {أَوْ كَصيبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: ١٩] .

فهذا المثل المائى.

وقد ذكرنا الكلام على أسرار هذين المثلين وبعض ما تضمناه من الحكم فى كتاب المعالم وغيره.

والمقصود: أن صلاح القلب وسعادته وفلاحه موقوف على هذين الأصلين. قال تعالى:

{إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرٌآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيا} [يس: ٦٩-٧٠] .

فأخبر أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو حى القلب، كما قال فى موضع آخر:

{إِنّ فِى ذلِكَ لَذِكرَى لمنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: ٣٧] .

وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اسْتَجيبوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لما يُحيِيكُمْ} [الأنفال: ٢٤] .

فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هى بما يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان. فعلم أن موت القلب وهلاكه بفقد ذلك.

وشبه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور. وهذا من أحسن التشبيه، فإن أبدانهم قبور لقلوبهم. فقد ماتت قلوبهم وقبرت فى أبدانهم. فقال الله تعالى:

{إنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ} [فاطر: ٢٢] .

ولقد أحسن القائل:

<<  <  ج: ص:  >  >>