قيل: نعم، إنما جاء ذلك فى جانب النفى، ولم يسم سبحانه أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفا قط، بل سماها روحا ونورا، وشفاء وهدى ورحمة، وحياة، وعهدا، ووصية، ونحو ذلك.
الوجه الرابع: أن أفضل نعيم الآخرة وأجله وأعلاه على الإطلاق هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع خطابه، كما فى صحيح مسلم عن صهيب رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويُجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه" وفى حديث آخر: "فلا يلتفتون إلى شىء من النعيم ما داموا ينظرون إليه" فبين النبىّ عليه الصلاة والسلام أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم فى الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما كان ذلك أحب إليهم لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم والفرح والسرور وقرة العين، فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب والحور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعيمين البتة. ولهذا قال سبحانه وتعالى فى حق الكفار:
فجمع عليهم نوعى العذاب: عذاب النار، وعذاب الحجاب عنه سبحانه، كما جمع لأوليائه نوعى النعيم: نعيم التمتع بما فى الجنة. ونعيم التمتع برؤيته، وذكر سبحانه هذه الأنواع الأربعة فى هذه السورة فقال فى حق الأبرار:
ولقد هضم معنى الآية من قال: ينظرون إلى أعدائهم يعذبون، أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم، أو ينظر بعضهم إلى بعض، وكل هذا عدول عن المقصود إلى غيره، وإنما المعنى ينظرون إلى وجه ربهم، ضد حال الكفار الذين هم عن ربهم لمحجوبون.
وتأمل كيف قابل سبحانه ما قاله الكفار فى أعدائهم فى الدنيا وسخروا به منهم، بضده فى القيامة، فإن الكفار كانوا إذا مر بهم المؤمنون يتغامزون ويضحكون منهم:{وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضَالُّونَ}[المطففين: ٣٢]