للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا عرف هذا، فالعبد فى حال معصيته واشتغاله عنه بشهوته ولذته، تكون تلك اللذة والحلاوة الإيمانية قد استترت عنه وتوارت، أو نقصت، أو ذهبت. فإنها لو كانت موجودة كاملة لما قدم عليها لذة وشهوة، لا نسبة بينها بوجه ما، بل هى أدنى من حبة خردل بالنسبة إلى الدنيا وما فيها. ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

"لا يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشَرَبُ الْخَمَر حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ".

فإن ذوق حقيقة الإيمان ومباشرته لقلبه يمنعه من أن يؤثر عليه ذلك القدر الخسيس، وينهاه عما يُشَعِّثه وينقصه.

ولهذا تجد العبد إذا كان مخلصا لله منيبا إليه، مطمئنا بذكره، مشتاقا إلى لقائه منصرفا عن هذه المحرمات، لا يلتفت إليها، ولا يعول عليها، ويرى استبداله بها عما هو فيه كاستبداله البعر الخسيس بالجوهر النفيس، وبيعه الذهب بأعقاب الجزرَ، وبيعه المسك بالرجيع.

ولا ريب أن فى النفوس البشرية من هو بهذه المثابة، إنما يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، ينفر من المطالب العالية، واللذات الكاملة ينفر الجُعَل من رائحة الورد. وشاهدنا من يمسك بأنفه عند وجود المسك ويتكره بها، لما يناله بها من المضرة.

فمن خلق للعمل فى الدباغة لا يجيء منه العمل فى صناعة الطيب، ولا يليق ولا يتأتى منه. والنفس لا تترك محبوبا وإلا لمحبوب هو أحب إليها منه، أو للخوف من مكروه هو أشق عليها من فوات ذلك المحبوب.

فالذنب يعدم لعدم المقتضى له تارة، ولاشتغال القلب بما هو أحب إليه منه، ولوجود المانع تارة، ومن خوف فوات محبوب هو أحب إليه منه تارة.

فالأول: حال من حصل له من ذوق حلاوة الإيمان وحقائقه والتنعم به، ما عوض قلبه عن مْيله إلى الذنوب.

<<  <  ج: ص:  >  >>