قيل لهم: فإذا كنتم أنجاساً على مقتضى أصولكم، فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام، اعتزالا تخرجون فيه إلى حد لو أن أحدكم لمس ثوبه ثوب المرأة نجستموه مع ثوبه.
فإن قلتم: ذلك من أحكام التوراة.
قيل لكم: ليس فى التوراة أن ذلك يراد به الطهارة، فإذا كانت الطهارة قد تعذرت عندكم، والنجاسة التى أنتم عليها لا ترتفع بالغسل، فهى إذاً أشد من نجاسة الحيض.
ثم إنكم ترون أن الحائض طاهر إذا كانت من غير ملتكم، ولا تنجسون من لمسها، ولا الثوب الذى تلمسه، فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس فى التوراة.
فصل
قالت الأمة الغضبية:
التوراة قد حظرت أمورا، كانت مباحة من قبل، ولم تأت بإباحة محظور، والنسخ الذى ننكره ونمنع منه: هو ما أوجب إباحة محظور، لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة، فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكداتها ومقرراتها فإذا جاء من أباحه علمنا بإباحة المفسدة: أنه غير نبى، بخلاف تحريم ما كان مباحا، فإنا نكون متعبدين بتحريمه.
قالوا: وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرمته التوراة، مع أنه إنما حرم لما فيه من المفسدة.
فهذه النكتة هى التى تعتمد عليها الأمة الغضبية، ويتلقاها خالف منهم عن سالف والمتكلمون لم يشفوهم فى جوابها. وإنما أطالوا معهم الكلام فى رفع البراءة الأصلية بالشرائع، وفى نسخ الإباحة بالتحريم.
ولعمر الله إنه لمما يبطل شبهتهم، لأن رفع البراءة الأصلية، ورفع الإباحة بالتحريم هو تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابى أو الشرعى، بحكم آخر لمصلحة اقتضت تغييره، ولا فرق فى اقتضاء المصلحة بين تغيير الإباحة بالتحريم، أو تغيير التحريم بالإباحة.