ولا يعني عدم التدوين عدم معرفتهم١ بما نعرفه نحن عن علوم القرآن، فما تشحن به أذهاننا من المعارف ربما عد من البديهيات عندهم، وقد أُمر المسلمون في صدر الإسلام أن يكتبوا القرآن فقط؛ لئلا يختلط به غيره، إلى أن يستقر في قلوبهم، وتألفه أسماعهم، وتتعود النطق به ألسنتهم، وبعد ذلك لا يمنعهم الشارع من تدوين ما هو نافع مفيد.
والتأليف في علوم القرآن له مرحلتان: المرحلة الأولى كان التأليف فيها عن نوع واحد؛ مثل: مؤلَّف علي بن المديني شيخ البخاري في أسباب النزول، و"الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد الله القاسم بن سلام، و"غريب القرآن" لأبي بكر السجستاني..
المرحلة الثانية كان التأليف فيها لأنواع عديدة، بدأت قليلة ثم كثرت بضم أنواع أخرى، كطبيعة أي شيء يبدو صغيرًا إلى أن يصل إلى التمام أو يكاد، ومن أمثال هذه المؤلفات:"فنون الأفنان في علوم القرآن" لابن الجوزي المتوفَّى سنة ٥٩٧هـ، و"جمال القراء" للسخاوي المتوفَّى سنة ٦٤١هـ، و"البرهان في علوم القرآن" للزركشي المتوفَّى سنة ٧٩٤هـ، ثم "الإتقان" للسيوطي المتوفَّى سنة ٩١١هـ.
١ الواقع أن قواعد علوم القرآن كانت مستقرة في نفوس العلماء من الصحابة، وكانوا يسيرون في ضوئها ولم يصرحوا بها، فعبد الله بن مسعود الصحابي الفقيه عندما كان يقول: إن الحامل المتوفَّى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل؛ لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: ٤] ويستدل بأن سورة الطلاق التي فيها هذه الآية نزلت بعد سورة البقرة التي فيها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: ٢٣٤] إنما كان يشير بهذا الاستدلال إلى قاعدة من قواعد علوم القرآن؛ وهي أن النص اللاحق ينسخ النص السابق وإن لم يصرَّح بذلك، فالعادة أن الشيء يوجد ثم يدون، فالتدوين كاشف عن وجود الشيء لا منشئ له.