اعلم أن من القرآن ما نزل ابتداء من غير سبب.. ومنه ما نزل ليفصل في وقائع وقعت..والاشتغال بمعرفة ذلك من المهمات التي لها فوائد عديدة:
١- منها: معرفة وجه الحكمة١ الباعثة على تشريع الحكم.
٢- ومنها: تخصيص الحكم به عند مَن يرى أن العبرة بخصوص السبب..
٣- ومنها: أن اللفظ قد يكون عامًّا ويقوم الدليل على تخصيصه، فلا يتناول التخصيص صورة السبب.
٤- ومنها: الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال.. فمثلًا قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قد يُفهم منه إباحة بعض المطعومات المحرمة ما دام المتناوِل تقيًّا مؤمنًا عاملًا للصالحات، فإذا عرف سبب النزول فُهم أنها نزلت لما سأل الصحابة عن مصير إخوانهم الذين ماتوا وكانوا يشربون الخمر، وهي رجس ولم تكن قد حرمت؛ فأنزل الله الآية إشارة إلى أن من مات قبل التحريم فلا جناح عليه.
وكذا قوله في الذين صلوا إلى بيت المقدس وماتوا قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، قال في قبول أعمالهم:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
٥- ومن فوائد معرفة أسباب النزول: دفع توهم الحصر.. فمثلًا قوله تعالى:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ظاهر هذا حصر المحرمات في هذه الأمور، فإذا علم السبب؛ وهو أن المشركين لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة والمحادة، جاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال
١ الحكمة المراد بها هنا: العلة الباعثة التي تبعث المكلَّف على امتثال أوامر الشارع. انظر في ذلك كتاب "التعليل في القرآن الكريم" للمحقق.