وكان أفضل رجال بني العباس حزمًا، وعزمًا، وحلمًا، وعلمًا، ورأيًّا، ودهاء، وهيبة، وشجاعة، وسؤددًا، وسماحة، وله محاسن وسيرة طويلة لولا ما أتاه من محنة الناس في القول بخلق القرآن، ولم يلِ الخلافة من بني العباس أعلم منه، وكان فصيحًا مفوّهًا، وكان يقول: معاوية بعمره، وعبد الملك بحجّاجه، وأنا بنفسي؛ وكان يقال: لبني العباس فاتحة، وواسطة، وخاتمة، فالفاتحة السفاح، والواسطة المأمون، والخاتمة المعتضد، وقيل: إنه ختم في بعض الرمضانات ثلاثًا وثلاثين ختمة، وكان معروفًا بالتشيع، وقد حمله ذلك على خلع أخيه المؤتمن والعهد بالخلافة إلى علي الرضا كما سنذكره.
قال أبو معشر المنجم: كان المأمون أمّارًا بالعدل، فقيه النفس، يعدّ من كبار العلماء.
وعن الرشيد قال: إني لأعرف في عبد الله حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو أشاء أن أنسبه إلى الرابع -يعني نفسه- لنسبته، وقد قدمت محمدًا عليه، وإني لأعرف أنه منقاد إلى هواه مبذر لما حوته يده يشاركه في رأيه الإماء والنساء، ولولا أم جعفر وميل بني هاشم لقدمت عبد الله عليه.
استقل المأمون بالأمر بعد قتل أخيه سنة ثمانٍ وتسعين وهو بخراسان، واكتنى بأبي جعفر.
قال الصولي: وكانوا يحبون هذه الكنية؛ لأنها كنية المنصور، وكان لها في نفوسهم جلالة وتفاؤل بطول عمر من كنى بها كالمنصور والرشيد.
وفي سنة إحدى ومائتين خلع أخاه المؤتمن من العهد، وجعل ولي العهد من بعده علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، حمله على ذلك إفراطه في التشيع حتى قيل: إنه هم أن يخلع نفسه ويفوض الأمر إليه، وهو الذي لقبه الرضا، وضرب الدراهم باسمه، وزوجه ابنته، وكتب إلى الآفاق بذلك، وأمر بترك السواد ولبس الخضرة، فاشتد ذلك على بني العباس جدًّا، وخرجوا عليه وبايعوا إبراهيم بن المهدي، ولقب: المبارك، فجهز المأمون لقتاله، وجرت أمور وحروب، وسار المأمون إلى نحو العراق، فلم ينشب علي الرضا أن مات في سنة ثلاث، فكتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم أنهم ما نقموا عليه إلا ببيعته لعلي، وقد مات، فردوا جوابه أغلظ جواب، فسار المأمون، وبلغ إبراهيم بن المهدي تسلل الناس من عهده، فاختفى في ذي الحجة، فكانت أيامه سنتين إلا أيامًا، وبقي في اختفائه مدة ثماني سنين.
ووصل المأمون إلى بغداد في صفر سنة أربع، فكلمه العباسيون وغيرهم في العود إلى لبس السواد وترك الخضرة، فتوقف، ثم أجاب إلى ذلك.
وأسند الصولي أن بعض آل بيته قالت: إنك على بر أولاد علي بن أبي طالب والأمر فيك أقدر منك على برهم والأمر فيهم، فقال: إنما فعلت ما فعلت لأن أبا بكر لما ولى لم يولِ أحدًا من بني هاشم شيئًا، ثم عمر ثم عثمان كذلك، ثم ولي علي فولّى عبد الله بن عباس البصرة، وعبيد الله اليمن، ومعبدًا مكة، وقثم البحرين، وما ترك أحدًا منهم حتى ولاه شيئًا؛ فكانت هذه منّة في أعناقنا حتى كافأته في ولده بما فعلت.