للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم بلغ المأمون أن الذين أجابوا إنما أجابوا مكرهين، فغضب وأمر بإحضارهم إليه، فحملوا إليه، فبلغتهم وطأة المأمون قبل وصولهم، إليه، ولطف الله بهم، وفرج عنهم.

وأما المأمون فمرض بالروم، فلما اشتد مرضه طلب ابنه العباس ليقدم عليه وهو يظن أنه لا يدركه، فأتاه وهو مجهود وقد نفذت الكتب إلى البلدان فيها: من عبد الله المأمون وأخيه أبي إسحاق الخليفة من بعده، بهذا النص، فقيل: إن ذلك وقع بأمر المأمون، وقيل: بل كتبوا ذلك وقت غشيٍ أصابه.

ومات المأمون يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة بالبذندون من أقصى الروم، ونقل إلى طرسوس، فدفن بها.

قال المسعودي: كان نزل على عين البذندون، فأعبجه بردُ مائها وصفاؤها وطيبُ حسن الموضع، وكثرة الخضرة، فرأى فيها سمكة كأنها سبيكة فضة، فأعجبته، فلم يقدر أحد أن يسبح في العين لشدة بردها، فجعل لمن يخرجها سيفًا، فنزل فراش فاصطادها وطلع، فاضطربت وفرت إلى الماء، فتنضح صدر المأمون ونحره وابتل ثوبه، ثم نزل الفراش ثانية فأخذها، فقال المأمون: تلقى الساعة، فأخذته رعدة، فغطي باللحف -وهو يرتعد ويصيح- فأوقدت حوله نار، فأتى بالسمكة، فما ذاقها لشغله بحاله، ثم أفاق المأمون من غمرته، فسأل عن تفسير المكان بالعربي؟ فقيل: مد رجليك، فتطير به، ثم سأل عن اسم البقعة، فقيل: الرقة، وكان فيما علم من مولده أنه يموت بالرقة، فكان يتجنب نزول الرقة فرقًا من الموت لما سمع هذا من الروم عرف وأيس، وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه، ولما وردت وفاته بغداد قال أبو سعيد المخزومي:

هل رأيت النجوم أغنت عن المأ ... مون أو عن ملكه المأسوس

خلّفوه بعرصتي طرطوس ... مثل ما خلّفوا أباه بطوس

قال الثعالبي: لا يعرف أب وابن من الخلفاء أبعد قبرًا من الرشيد والمأمون. قال: وكذلك خمسة من أولاد العباس تباعدت قبورهم أشد تباعد، ولم يرَ الناس مثلهم: فقبر عبد الله بالطائف، وعبيد الله بالمدينة، والفضل بالشام، وقثم بسمرقند، ومعبد بإفريقية.

فصل: في نبذ من أخبار المأمون

قال نفطويه: حدثنا حامد بن العباس بن الوزير قال: كنا بين يدي المأمون، فعطس، فلم نشمته، فقال: لم لا تشمتونني؟ قلنا: أجللناك يا أمير المؤمنين، قال: لست من الملوك التي تتجال عن الدعاء.

وأخرج ابن عساكر عن أبي محمد اليزيدي قال: كنت أؤدب المأمون، فأتيته يومًا -وهو داخل- فوجهت إليه بعض الخدم يعلمه بمكاني، فأبطأ ثم وجهت إليه آخر، فأبطأ فقلت: إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة، فقيل: أجل، ومع هذا إنه إذا فارقك تعرم على خدمه

<<  <   >  >>