للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فليقتصر على هذا، فقال له يحيى بن أكثم يا أمير المؤمنين، إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم كنت هومس في حسابه، أو في الفقه كنت على بن أبي طالب -رضي الله عنه- في علمه، أو ذكر السخاء كنت حاتم طيئ في صفته، أو صدق الحديث كنت أبا ذر في لهجته، أو الكرم أنت كعب بن مامة في فعاله، أو الوفاء فأنت السموأل بن عاديا في وفائه فسرّ بهذا الكلام، وقال: إن الإنسان إنما فضل بعقله، ولولا ذلك لم يكن لحم أطيب من لحم، ولا دم أطيب من دم.

وأخرج عن يحيى بن أكثم: ما رأيت أكمل من المأمون، بت عنده ليلة فانتبه فقال: يا يحيى انظر إيش عند رجلي؟ فنظرت فلم أر شيئًا، فقال: شمعة، فتبادر الفراشون، فقال: انظروا، فنظروا تحت فراشه حية بطوله فقتلوها، فقلت: قد انضاف إلى كمال أمير المؤمنين علم الغيب، فقال: معاذ الله ولكن هتف بي هاتف الساعة وأنا نائم فقال:

يا راقد الليل انتبه ... إن الخطوب لها سرى

ثقة الفتى بزمانه ... ثقة محللة العرى

فانتبهت فعلمت أن قد حدث أمر، إما قريب وإما بعيد، فتأملت ما قرب فكان ما رأيت.

وأخرج عن عمارة بن عقيل قال: قال لي ابن أبي حفصة الشاعر: أعلمت أن المأمون لا يبصر الشعر؟ فقلت: من ذا يكون أفرس منه؟ والله إنا لننشد أول البيت فيسبق إلى آخره، من غير أن يكون سمعه، قال: إني أنشدته بيتًا أجدت فيه فلم أره تحرك له وهو هذا:

أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلًا ... بالدين، والناس في الدنيا مشاغيل

فقلت له: ما زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها في يدها سبحة، فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان مشغولًا عنها، فهو المطوق لها؟ ألا قلت كما قال عمك في الوليد:

فلا هو في الدنيا يضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

قال ابن عساكر: أخبرنا أبو العز بن كادش، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن محمود بن أبي الأزهر الخزاعي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثني النضر بن شميل قال: دخلت على المأمون يمرو على أطمار، فقال لي: يا نصر أتدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إن حر مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق، قال: لا، ولكنك تتقشف، فتجارينا الحديث، فقال المأمون: حدثني هشيم بن بشير، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز"، قلت: صدق قول أمير المؤمنين عن هشيم: حدثني عوف الأعرابي، عن الحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها ولجمالها كان فيه سداد -بالكسر- من عوز". وكان المأمون متكئًا فاستوى جالسًا، وقال: السداد لحن يا نضر؟ قلت: نعم ههنا، وإنما لحن هشيم وكان لحانًا، فقال: ما الفرق بينهما؟ قلت: السداد -بالفتح- القصد في السبيل، والسداد -بالكسر- البلغة وكل

<<  <   >  >>