وفي سنة اثنتين وأربعين زلزلت الأرض زلزلة عظيمة بتونس، وأعمالها، والريّ، وخراسان، ونيسابور، وطبرستان، وأصبهان، وتقطعت الجبال، وتشققت الأرض بقدر ما يدخل الرجل في الشق، ورجمت قرية السويداء بناحية مصر من السماء، وَوُزنَ حجر من الحجارة فكان عشرة أرطال، وسار جبل باليمن عليه مزارع لأهله حتى أتى مزارع آخرين، ووقع بحلب طائر أبيض دون الرخمة في رمضان فصاح: يا معشر الناس اتقوا الله، الله، الله، الله، وصاح أربعين صوتًا ثم طار وجاء من الغد ففعل كذلك، وكتب البريد بذلك، وأشهد عليه خمسمائة إنسان سمعوه.
وفيها حج من البصرة إبراهيم بن مطهر الكاتب على عجلة تجرها الإبل، وتعجب الناس من ذلك.
وفي سنة ثلاث وأربعين قدم المتوكل دمشق، فأعجبته، وبنى له القصر بداريًّا وعزم على سكناها، فقال يزيد بن محمد المهلبي
أظن الشام تشمت بالعراق ... إذا عزم الإمام على انطلاق
فإن تَدَع العراق وساكنيه ... فقد تبلي المليحة بالطلاق
فبدا له ورجع بعد شهرين أو ثلاثة.
وفي سنة أربع وأربعين قتل المتوكل يعقوب بن السِّكِّيت الإمام في العربية فإنه ندبه إلى تعليم أولاده، فنظر المتوكل يومًا إلى ولديه المعتز والمؤيد فقال لابن السكيت: من أحب إليك هما أو الحسن والحسين؟ فقال: قنبر -يعني: مولى عليّ- خير منهما، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات، وقيل: أمر بسلّ لسانه فمات وأرسل إلى ابنه بديته، وكان المتوكل رافضيًّا.
وفي سنة خمس وأربعين عمت الزلازل الدنيا، فأخربت المدن والقلاع والقناطر وسقط من أنطاكية جبل في البحر، وسمع من السماء أصوات هائلة وزلزلت مصر، وسمع أهل بلبيس من ناحية مصر صيحة هائلة، فمات خلق من أهل بلبيس، وغارت عيون مكة، فأرسل المتوكل مائة ألف دينار لإجراء الماء من عرفات إليها، وكان المتوكل جودًا ممدّحًا، يقال: ما أعطى خليفة شاعرًا ما أعطى المتوكل، وفيه يقول مروان بن أبي الجنوب:
فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد ... فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا
فقال: لا أمسك حتى يغرقك جودي، وكان أجازه على قصيدة بمائة ألف وعشرين ألفًا.
ودخل عليه علي بن الجهم يومًا وبيديه درتان يقلبهما، فأنشده قصيدة له، فرمى إليه بدرة فقلبها، فقال: تستنقص بها وهي والله خير من مائة ألف؟ فقال: لا ولكني فكرت في أبيات أعملها آخذ بها الأخرى فقال: قل، فقال:
يسر من را إمام عدل ... تغرف من بحره البحار
الملك فيه وفي بنيه ... ما اختلفت الليل والنهار
يرجى ويخشى بكل خطب ... كأنه جنة ونار
يداه في الجود ضرتان ... عليه كلتاهما تغار
لم تأت من اليمن شيئًا ... إلا أتت مثلها اليسار