ذلك عشرين يومًا، وتشويش العساكر، وانقلاب البلدان، وقد خفت على نفسي من جانب الله، وظهور آياته، وامتناع الناس من الصلاة في الجوامع، ومنع الخطباء ما لا طاقة لي بحمهلن فالله الله تتلافى أمرك، وتعيد أمير المؤمنين إلى مقرّ عزّه، وتحمل الغاشية بين يديه كما جرت عادتنا وعادة آبائنا، ففعل مسعود جميع ما أمره به، وقبل الأرض، بين يدي الخليفة، ووقف يسأل العفو.
ثم أرسل سنجر رسولًا آخر ومعه عسكر يستحثّ على إعادة الخليفة إلى مقر عزه، فجاء في العسكر سبعة عشر من الباطنية، فذكر أن مسعودًا ما علم بهم، وقيل: بل علم بهم، وقيل: بل هو الذي دسهم، فهجموا على الخليفة في خيمته، ففتكوا به وقتلوا معه جماعة من أصحابه، فما شعر بهم العسكر إلا وقد فرغوا من شغلهم، فأخذوهم وقتلوهم إلى لعنة الله، فاشتد ذلك على الناس، وخرجوا حفاة مخرقين في الثياب، والنساء ناشرات الشعور يلطمن ويقلن المراثي، لأن المسترشد كان مُحَبّبًا فيهم ببره، ولما فيه من الشجاعة والعدل والرفق بهم.
وكان قتل المسترشد -رحمه الله- بمراغة يوم الخميس سادس عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين، ومن شعره:
أنا الأشقر المدعو بي في الملاحم ... ومن يملك الدنيا بغير مزاحم
ستبلغ أرض الروم خيلي، وتنتضي ... بأقصى بلاد الصين بيض صوارمي
ومن شعره لما أسر:
ولا عجبًا للأسد إن ظفرت بها ... كلاب الأعادي من فصيح وأعجم
فحربة وحشّي سقت حمزة الردى ... وموت عليٍّ من حسام ابن ملجم
وله لما كسر وأشير عليه بالهزيمة فلم يفعل وثبت حتى أسر:
قالوا: تقيم وقد أحا ... ط بك العدو ولا تفر
فأجبتهم: المرء ما ... لم يتعظ بالوعظ غر
لا نلت خيرًا ما حييت ... ولا عداني الدهر شر
إن كنت أعلم أن غير ... الله ينفع أو يضر
قال الذهبي: وقد خطب الناس يوم عيد الأضحى، فقال: الله أكبر ما سبحت الأنواء، وأشرق الضياء، وطلعت ذكاء، وعلت على الأرض السماء، الله أكبر ما هما سحاب ولمع سراب، وأنجح طلاب، وسر قادمًا إياب، وذكر خطبة بليغة ثم جلس، ثم قام فخطب، وقال: اللهم أصلحني في ذريتي وأعني على ما وليتني، وأوزعني شكر نعمتك، ووفقني وانصرني، فلما أنهاها وتهيأ للنزول بدره أبو المظفر الهاشمي، فأنشده:
عليك سلام الله خير من علا ... على منبر قد حف أعلامه النصر