للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان -مع ذلك- أعلمهم بالسنة، كلما رجع إليه الصحابة في غير موضع يبرز عليهم بنقل سنن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحفظها هو ويستحضرها عند الحاجة إليها، ليست عندهم، وكيف لا يكون كذلك وقد واظب على صحبة الرسول -عليه الصلاة والسلام- من أول البعثة إلى الوفاة؟ وهو مع ذلك من أذكى عباد الله وأعقلهم، وإنما لم يروَ عنه من الأحاديث المسندة إلا القليل لقصر مدته، وسرعة وفاته بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلا فلو طالت مدته لكثر ذلك عنه جدًّا، ولم يترك الناقلون عنه حديثًا إلا نقلوه، ولكن كان الذين في زمانه من الصحابة لا يحتاج أحد منهم أن ينقل عنه ما قدر شاركه هو في روايته؛ فكانوا ينقلون عنه ما ليس عندهم.

وأخرج أبو القاسم البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبوب بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع أمرهم على رأي قضى به، وكان عمر -رضي الله عنه- يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان لأبي بكر فيه قضاء؟ فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به، وإلا دعا رءوس المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر قضى به.

وكان الصديق -رضي الله عنه- مع ذلك أعلم الناس بأنساب العرب، لا سيما قريش، أخرج ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن شيخ من الأنصار قال: كان جبير بن مُطعِم من أنسب قريش لقريش والعرب قاطبة، وكان يقول: إنما أخذت النسب من أبي بكر الصديق وكان أبو بكر الصديق من أنسب العرب.

وكان الصديق مع ذلك غاية في علم تأويل الرؤيا، وقد كان يعبر الرؤيا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد قال محمد بن سيرين -وهو المقدّم في هذا العلم بالاتفاق-: كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن سعد١.

وأخرج الديلمي في مسند الفردوس وابن عساكر عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أُأَوِّل الرؤيا وأن أعلمها أبا بكر" ٢.

قال ابن كثير: وكان من أفصح الناس وأخطبهم؛ قال الزبير بن بكار: سمعت بعض أهل العلم يقول: أفصح خطباء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- وسيأتي في حديث السقيفة قول عمر رضي الله عنه: وكان من أعلم الناس


١ أخرجه ابن سعد في الطبقات "١٦٥/٢".
٢ أخرجه الديلمي في مسند الفردوس "٣٢٥٥٢/١١ كنز".

<<  <   >  >>