للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

وقيل: "إن اليهود لما جاؤوا لأخذ المسيح هرب من كان معه من أصحابه وثبت معه رجل واحد يسمّى: جرجس، فألقى الله شبهه عليه، فأخذوه وذهبوا به ليلاً، وستر الله المسيح عن أعينهم، فعذبوا الرجل ليلاً، ثم قتلوه من صبيحة تلك الليلة"١. فلم يشكّ من كان ترك المسيح وهرب عنه أن المأخوذ هو المسيح، فلذلك أخبروا أن المسيح قد صلب.

قال المؤلّف: قد روينا فيما تقدم من كتابنا هذا عن بطرس - صاحب المسيح - أن المسيح عليه السلام صعد إلى جبل الجليل في جماعة من أصحابه، فنظروا إلى وجهه وإذا هو قد تغيرت صورته، وابيضت ثيابه، وإذا موسى وإلياء قد نزلا إليه ومعهم سحابة تظلهم، وعند ذلك وقع على بطرس / (١/١٥٥/أ) وأصحاب المسيح النوم فناموا٢، وذلك يحقّق قولنا في الشبه ٣.


١ أخرجه ابن جرير٦/١٥،قال: قال ابن حميد: قال سلمة: قال ابن إسحاق: ... فذكره بنحوه.
٢ متى ١٧/١-٨، ومرقس ٩/١-٨.
٣ اختلف العلماء في الشبه المصلوب بدلاً عن المسيح عليه السلام على أقوال هي:
الأوّل: أن عيسى عليه السلام سأل أصحابه - ممن كان معه في البيت حين أحاط به اليهود - فقال: "أيّكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ ". فانتدب لذلك شاب من أحدثهم سنّاً، فألقي عليه شبهه فيقتل، ورفع عيسى عليه السلام. قال بهذا قتادة والسدي والقاسم بن أبي عزة وابن جريج. ورجّحه الإمام ابن كثير ١/٥٨٧، ٥٨٨، وساق في ذلك أثراً من تفسير ابن عباس ورواه النسائي عن أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه. وكذا ذكره غير واحد من السلف. اهـ.
الثّاني: قيل: إن شبه عيسى ألقي على جميع من كان معه في البيت من غير مسألة عيسى إيّاهم ذلك، فخرج إلى اليهود بعض من كان في البيت، فقتلوه وهم يحسبونه أنه المسيح عليه السلام. وهذا القول أحد الروايتين عن وهب بن منبه واختاره الإمام ابن جرير في تفسيره ٦/١٦.
الثّالث: قيل: إن الشبه ألقي على الحواري الخائن يهوذا الأسخريوطي الذي أخذ الرشوة من اليهود ليدلهم على مكان المسيح عليه السلام، فعاقته الله بعكس مقصوده. فألقي شبه عيسى عليه، فقبض عليه اليهود وقتلوه وهم يحسبون أنه المسيح عليه السلام. وهذا القول أحد الرواتين عن وهب منبه. (ر: تفسير الطبري ٦/١٣، وبه قال نجم الدين الطوفي في كتابه: (الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية ص ١٠٢) . وقد وردت هذه الرواية في إنجيل برنابا: (الفصل الإصحاح ٢١٤، ٢١٥، ٢١٧) .
الرّابع: قل: إنه شبه للنصارى القول بذلك، أي: حصلت لهم الشبهة في أمره، وليس لهم علم بأنه قتل وصلب، وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت وشُرُطهم المُدَّعون لهم أنهم قتلوه وصلبوه، وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك. وإنما أخذوا مَنْ أَمْكَنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس، ثم أنزلوه ودفنوه تمويهاً على العامّة الذين شبه لهم الخبر. وقال بهذا ابن حزم في الفصل الملل والنحل ١/١٢٥، وذكره ابن القيم في هداية الحياري ص ٣١٤.
والذي أرجّحه - والله أعلم - هو القول الأوّل لصحّة إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أثنى على الحواريين في عدة آيات من سورة آل عمران، والمائدة، والصّفّ، قال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} . [سورة المائدة، الآية: ١١١] . وقال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . [سورة آل عمران، الآية: ٥٢، ٥٣.] . فناسب أن يكون موقفهم بحسب قوّة إيمانهم بالله وتصديهم لنبيّه عيسى عليه السلام أن يفدوه بأنفسهم ويستشهدوا في سبيل الدفاع عنه عليه السلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>