للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنه من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد. وعلى هذا المعنى للفطرة جاءت آيات كثيرة منها قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (فاطر: ١) وقوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (إبراهيم: ١٠) وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} (الأنعام: ٧٩) وقوله تعالى عن سحرة فرعون بعدما آمنوا برب العالمين: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} (طه: ٧٢)، فهذه الآيات وغيرها كثير تدل على أن المراد بالفطرة الخِلقة؛ لأن الفاطر هو الخالق، فيكون المقصود بمقتضى الفطرة هو مقتضى الخلقة التي خلق الله الناس عليها قبل أن تنحرف عنه بالتغيير والتبديل؛ ولهذا شبَّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- المولود على الفطرة بالبهيمة حين تُخلق مكتملة الخلق قبل أن تغيّر خلقتها بالجدع.

وعلى هذا يكون المقصود بالمعرفة الفطرية: ما تقتضيه الخلقة التي خلق الله الناس عليها من المعارف الضرورية بحيث يكون التسليم بها هو مقتضى الغريزة العقلية التي فطر الله الناس عليها، فلا يكون صدقها مستندًا إلى أدلة خارجة عنها، وإنما إلى مجرد تصورها، وليس المقصود بفطرية تلك المعارف أن تكون كامنة في النفس حاصلة للإنسان منذ ولادته، وإنما تكون حاصلة له بالقوة، بمعنى أنها المقتضى المباشر للغريزة العقلية، وهذا يقتضي من وجه آخر ألا تكون الفطرة هي مجرد القابلية لتلك المعارف؛ لأن مجرد قابلية الفطرة لها لا يقتضي بحفظها.

والله -سبحانه وتعالى- قد امتنَّ على الناس بما وهبهم من الحواس والعقل، وأمرهم بشكره على ذلك وأرشدهم إلى ضرورة الانتفاع بحواسهم وعقولهم: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} (الملك: ٢٣) {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}،

<<  <   >  >>