للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حتى ما يدرون فيمَ ينفقونه. وكان من سياسة دمشق أن تقصيهم عن الولايات والأعمال، فاتسع عليهم الوقت حتى ما يعلمون بِمَ يملؤونه. فانصرفوا إلى تزجية الأيام وانتهاب اللذائذ، فجعلوا الحجاز دارة اللهو والترف ومثابة الشعر والغناء. وناهيك بالشباب والفراغ والجِدة إذا اجتمعت على قوم من الأقوام!

وكانت ليلة مشرقة غسل البدر بنوره ظلماءها، وأحالها مثل الغادة المائسة بغلالتها البيضاء، ثم ذهب يغتسل في العقيق، فطفا ضياؤه على وجهه، يعانق قطراته ويراقص أمواجه الصغيرة. وكان منظر عجباً، تحسب معه أن الوادي لا يجري بالماء وإنما يجري فضة سائلة ونوراً مذاباً.

وكان الناس منثورين في كل مكان، في القصور الشم التي يفيض بها الوادي وتمتلئ بها التلال والصخور، وعلى سفوح الربا وذُرا الهضاب، وجوانب الحرّة وفرش الرمال؛ حلقاً يستمعون إلى مغنّ أو شاعر، أو يديرون بينهم أطايب الحديث، أو يأكلون ويشربون، أو يلهون ويلعبون. ولم يكن فيهم إلا من ملأ الفرح قلبه وغمرت السعادة فؤاده. أما النساء فقد اعتزلن جانباً، يأخذن حظهن من ليالي العقيق، وقد بدَوْن في شعاع القمر بثيابهن الملونة الزاهية كالروض الزاهر الفاتن بكل ساحر أخاذ، من الورد والياسمين والنرجس والبنفسج، والزهر من كل شكل ولون. أما عطر الروض فكان يفوح من أعطافهن وشعورهن وثيابهن.

ذلك هو العقيق.

كم شهد من أعراس الحياة ومباهجها. كم جال في أرجائه

<<  <   >  >>