ولّى نهار الإثنين ١٦ جمادى الأولى سنة ٧٣ للهجرة وخلّف مكة وهي ثكلى ملتاعة، محطمة القلب مخلّعة الأضلاع، قد غرقت في دماء أبنائها الذين ضربتهم يد الدهر ففرقت جمعهم وشتت شملهم، فراحوا ... فريق مصرّعون على أرض الحرم، وفريق تحت رايات أمية. قد أرمضتهم هذه الحرب الطويلة التي حملوا عناءها وقاسوا لاواءَها سبعة أشهر لم تدع لهم أخضر ولا يابساً، فتسللوا من مكة لِواذاً، ثم تسلقوا هذه الجلاميد التي انتشرت عليها جيوش أمية الغازية فاستسلموا إليها وأخذوا منها لأنفسهم أماناً، ثم كانوا عوناً لها وجنداً فيها. وفريق أقاموا على الولاء لابن الزبير، يذكرون من مات من أهليهم فيَغُصّون بالماء حزناً وألماً، ويذكرون من فرّ من إخوانهم فيوارون وجوههم حياءً وخجلاً، ثم إنهم ينتظرون الموت بين كل لحظة وأختها، ويعيشون خائفين في مقام إبراهيم (ومن دخله كان آمناً!).
وألقى الليل غلائله السود على هذه المدينة التي عضتها الحرب بنابها، وأصابتها بأوصابها، فباتت تتنفس الصعداء من شدة يوم قاس عَبوس، تحالفت فيه طبيعة الجو وقسوة القلوب