على حرب هذا البلد الحرام، فلم يكن ينجو من حجارة المنجنيق إلا إلى شَرَى (١) الصواعق، فكأن الطبيعة قد شمرت عن ساقها للقتال، فهي ترمي المهاجمين والمدافعين والآمنين من صواعقها ورجومها بشَواظٍ من نار، تصيب به الدور والمنازل فتدعها قاعاً صفصفاً كأن لم تَغْنَ بالأمس. والحَجاج ما ينفك مجالداً مقارعاً، يقذف بأحجار منجنيقه وجنادله بيت الله فيهدم جدران بيت الله، ويرمي بيوت الناس فيُهلك من بقي فيها من أشياخ عجّز لا قبل لهم بالحرب وأهوالها، وأطفال برآء لا يدَ لهم في جرائرها وأوزارها، فيختلط عويلهم وصراخهم بهزيم الرعود وزئير الرياح، ثم تضيع هذه الموسيقى المروعة في جلبة الانهدام، ويخفي الغبار الثائر حول المنازل المهدودة هذا المشهد المرعب لحظة من زمان، ثم ينجلي فإذا التراب قد حوى كل شيء، وإذا المدينة العامرة المقدسة مقبرة من المقابر.
وامتد رواق الليل، وصفت السماء وأطل البدر، ونامت الحرب. وكانت الحرب يومئذ طفلة لم تستكمل شراستها، ولم تَنْمُ أنيابُها، ولم يستَطِرْ شرُّها (كما استطار اليوم فغدت لا تنام ولا تُنيم). وكان في نفوس المتحاربين شرف ووفاء، فاستراحوا وأراحوا، ونام هؤلاء الأبطال المدافعون نوم الأُسْد في آجامها، كما نام هذا الجيش الجرار الذي امتد زحفه حتى بلغ أبواب الحرم.
سكن الليل وعم شوارع مكة المقفرة الخالية (حيث كان جيش ابن الزبير يروح ويغدو بطبوله وراياته، فطوت كف الردى